وهذا لا يُسلَّمُ له في الجانبَيْن؛ فمقاماتُ الخوفِ والرجاءِ والتوكُّلِ غايتُها إجلالُ اللهِ وتعظيمُه، والخضوعُ له والإقرارُ بربوبيَّتِهِ وكمالِ غناه؛ كيف وقد أثنى اللهُ على ملائكتِهِ بمقامِ الخوفِ؛ فقال: ﴿يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ﴾ [النحل: ٥٠]، وقال سبحانه: ﴿وَهُمْ مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُون (٢٨)﴾ [الأنبياء]، وأثنى اللهُ على أنبيائِهِ وأوليائِهِ بمقامِ الخوفِ والرجاءِ والتوكُّلِ؛ فقال سبحانه: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِين (٩٠)﴾ [الأنبياء]، وقال عن رسلِهِ ﵈: ﴿وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُون (١٢)﴾ [إبراهيم].
وأمَّا مقامُ المحبَّةِ - مع علوِّ قدرِهِ - فلا يُستغنَى به عن مقامِ الخوفِ والرجاءِ، كما تزعُمُ الصوفيَّة (١)، ومع ذلك: فللنفسِ حظٌّ في مقامِ
(١) قال ابن القيم ﵀: «والمحبة ما لم تقرن بالخوف فإنها لا تنفع صاحبها بل قد تضره؛ لأنها توجب الإدلال والانبساط، وربما آلت بكثير من الجهال المغرورين إلى أنهم استغنوا بها عن الواجبات، وقالوا: المقصود من العبادات إنما هو عبادة القلب، وإقباله على الله، ومحبته له، وتألهه له، فإذا حصل المقصود فالاشتغال بالوسيلة باطل! ولقد حدثني رجل أنه أنكر على رجل من هؤلاء خلوة له ترك فيها حضور الجمعة؛ فقال له الشيخ: أليس الفقهاء يقولون: إذا خاف على شيء من ماله فإن الجمعة تسقط عنه؟ فقال له: بلى، فقال له: فقلب المريد أعز عليه من ضياع عشرة دراهم! أو كما قال، وهو إذا خرج ضاع قلبه، فحفظه لقلبه عذرٌ مسقطٌ للجمعة في حقه. فتأمل هذا الغرور العظيم كيف آل بهؤلاء إلى الانسلاخ عن الإسلام جملة! ولهذا قال بعض السلف: «من عبد الله تعالى بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن». وقد جمع الله تعالى هذه المقامات الثلاثة بقوله: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ﴾ [الإسراء: ٥٧] فابتغاء الوسيلة هو محبته الداعية إلى التقرب إليه، ثم ذكر بعدها الرجاء والخوف؛ فهذه طريقة عباده وأوليائه». «بدائع الفوائد» (٣/ ٨٥٠ - ٨٥١).