هذا الحديث يحتمل أن يراد منه: من لم يدع قول الزور والعمل بمقتضاه مطلقا غير مقيد بصوم فماذا يصنع بصومه؟ كما يقال: من لم ينته عن الفحشاء والمنكر فلا فائدة من صلاته، ويحتمل أن يكون المراد: من لم يدع ذلك في حالة تلبسه بالصوم، وهذا هو الظاهر وقد صرح به في بعض الطرق، وليس معنى قوله "فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه" أن يؤمر بترك صيامه، وإنما معناه التحذير من قول الزور وما ذكر معه.
وهو مثل قوله صلى الله عليه وسلم "من باع الخمر فليشقص الخنازير" أي فليذبح الخنازير، وليقطعها بالمشقص، وهو نصل السهم إذا كان طويلا غير عريض، فليس المراد أمره بذبح الخنازير، ولكنه على التحذير والتعظيم لإثم بائع الخمر، فكذلك من اغتاب أو شهد زورا أو منكرا لا يؤمر بأن يدع صيامه، ولكنه يؤمر باجتناب ذلك ليتم له أجر صومه، ومن هذا القبيل قوله صلى الله عليه وسلم "إذا لم تستح فاصنع ما شئت" وقد اختلف العلماء في أن الغيبة والنميمة والكذب والزور تفطر الصائم، وقد روى الغزالي "خصلتان تفسدان الصوم الغيبة والكذب" والجمهور من الأئمة -كما مر -على أنه لا يفسد الصوم بذلك، والمعروف في رواية الغزالي "خصلتان من حفظهما سلم له صومه: الغيبة والكذب" وقال ابن العربي مقتضى هذا الحديث أن فاعل ما ذكر لا يثاب على صيامه، ومعناه أن ثواب صيامه لا يقوم في موازنة إثم الزور وما ذكر معه وقال البيضاوي: ليس المقصود من مشروعية الصوم نفس الجوع والعطش، بل ما يتبعه من كسر الشهوات وتطويع النفس الشريرة والأمارة بالسوء للنفس المطمئنة، فإذا لم يحصل ذلك لا ينظر الله إليه نظرة القبول، وقال بعضهم لعل القصد بالصوم في الأصل الإمساك عن جميع المخالفات، لكن لما كان ذلك يشق خفف الله وأمر بالإمساك عن المفطرات، ونبه الغافل بذلك على الإمساك عن المخالفات، فيكون اجتناب المفطرات واجبا، واجتناب ما عداها من المخالفات من توابع الواجب والتحقيق، أن الصوم يتأثر بهذه الأشياء وينقص ثوابه بفعلها، لأنه إذا كان منهيا عنها مطلقا: