فالمعتزلة أصابوا في جعلهم الحسن والقبح مدركاً بالعقل، وأخطأوا حيث أخرجوه عن معنى الملاءمة والمنافرة، كما غلطوا - أيضاً - حيث لم يثبتوا الحسن والقبح الشرعيين، وجعلوا الشرع مجرد كاشفٍ لما أدركه العقل، كما غلطوا في جعلهم العقل موجِباً للأحكام الشرعية، فأثبتوا إيجاباً، وتحريماً، وثواباً، وعقاباً بمجرد العقل، فما دل العقل على حسنه - عندهم -؛ فهو واجب، وما دل على قبحه؛ فهو محرم، وفعله موجِب للعقاب.
والصواب: أن العقل وإن دل على حسن الفعل وقبحه؛ فإنه لا يقتضي وجوباً ولا تحريماً، فلا وجوب إلا بالشرع، ولا تحريم إلا بالشرع، فالأحكام التشريعية لا تؤخذ إلا مِنْ الشرع، والعقاب لا يكون إلا بعد ورود الشرع؛ كما قال تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا (١٥)﴾ [الإسراء].
فالأفعال الحسنة سبب للثواب، والأفعال القبيحة سبب للعقاب، ولكن هذه السببية مربوطة بالشرع لا سيما مسألة العقاب، فالعقاب لا يترتب على مجرد الأفعال مطلقاً، بل لا بدَّ من قيام الحجة، وبلوغ الرسالة، كما قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ﴾ [التوبة: ١١٥]، وقال تعالى: ﴿وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِين (٤٧)﴾ [القصص](١).
(١) «مجموع الفتاوى» ٨/ ٤٣٥، و «الجواب الصحيح» ١/ ٤٤٢.