فجعلوا التمييز بين حُسن الصدق وقُبح الكذب؛ مرده إلى الشرع فقط، وإن كانا متساويين في نفس الأمر.
أما غلاة الصوفية؛ فوقفوا عند الحقيقة الكونية، وأعرضوا عن الشرع، فسووا بين الأشياء في ذاتها وفي حكمها، ولم يفرقوا بينها لا في ذاتها، ولا من جهة الشرع، ويرون أن كمال المعرفة والتوحيد في عدم التمييز، فلا فرق عندهم بين الصدق والكذب، ولا بين الطاعة والمعصية، لا من حيث ذاتها، ولا من ناحية الشرع؛ لأنهم معرضون عن الأمر والنهي.
والحق أن هؤلاء الذين يقفون عند الحقيقة الكونية، وينظرون إلى القدر فقط، ويعرضون عن الشرع، ولا يميزون بين الأشياء في ذاتها؛ هؤلاء مخالفون لضرورة العقل، والقياس، والحس، والذوق، والشرع، وقولهم مِنْ أبطل الباطل (١).
فكل أحد يفرق بذوقه بين ما يلتذ به ممَّا يؤكل ويشرب، وما لا يلتذ به، ويفرق بحسه بين ما يؤذيه من الحر والبرد، وما ليس كذلك، ويفرق الناس بعقولهم بين كثير ممَّا ينفعهم، وما يضرهم.
وهذا التمييز بين ما ينفع وما يضر؛ هو: مضمون الشرع، فهو الحقيقة الشرعية الدينية، كما أن هناك أموراً عرف الفرق بينها من جهة الشرع، فمَن لم يُفَرِّق بين ما فَرَّق بينه الشرع؛ فهو ملحد بمخالفته للشرع، والعقل.
(١) «أقوم ما قيل في القضاء والقدر والحكمة والتعليل» ص ١٠٦، و «الاحتجاج بالقدر» ص ٣١٠.