للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

في خطوطه العريضة لا مرد له، وأنه في صالح مصر. لكنه كان يعي الخطر الكامن فيه: خطر انقسام المجتمع إلى دائرتين بدون اتصال حقيقي بينهما: دائرة تنحسر يومًا عن يوم، وهي الدائرة التي تسودها شرائع الإسلام ومبادئها الخلقية، ودائرة تتسع يومًا بعد يوم، وهي الدائرة التي تسيطر عليها المبادئ المستمدة بالاستنباط العقلي من اعتبارات المصالح الدنيوية. وبتعبير آخر، كان الخطر متأتيًا عن نمو النزعة إلى توطيد العلمانية في مجتمع يتعارض بجوهره مع تبني العلمانية تبنيًا تامًا. وهذا من شأنه أن يؤدي، كما أدى بالفعل، إلى ذلك الانقسام المتجلي في كل ناحية من نواحي الحياة.

وإننا لنجد، حتى في مقالات محمد عبده الباكرة، تحليلًا واضحًا للمشكلة ولنتائجها. فهناك مثلًا مجموعة من المقالات تعالج قضية القانون. فتظهر تفكيره وتفكير أسلافه في أن المجتمع يجب، كي يكون صالحًا من الوجهة الخلقية، أن يتقيد بنوع ما من القوانين، إذ لجميع المخلوقات نواميسها الطبيعية. فإذا خرج كائن عن دائرة نواميسه تعرض للفناء. وما القوانين الخاصة بالناس وبالمجتمعات سوى تلك الشرائع الخلقية الضابطة للسلوك البشري ... والتي وضعها أهل المعرفة والحكمة في كتب الخلقيات والتربية بعد أن جاءت بها الأوامر الإلهية (١٠).

إن المجتمع الذي يتجاوز الحدود التي تعينها له شرائعه ينهار. غير أن «الشرائع تتغير بتغير أحوال الأمم». وهي، لكي تكون فعالة، يجب أن تتصل على نحو ما بمقاييس البلد المطبقة فيه وظروفه، وإلا عجزت عن القيام بمهمتها الجوهرية، وهي توجيه أعمال الإنسان وتكوين عاداته، وبطلت أن تكون شرائع أصلًا (١١). وهكذا كان، في نظر محمد عبده، وضع الشريعة في المجتمع المصري الحديث. فقد حاول محمد علي وخلفاؤه إصلاح مصر بزرع مؤسسات وقوانين أوروبية في أرضها. وهو أمر، عند محمد عبده، لا يمكن تطبيقه، رغم إعجابه الشديد، حتى قبل زيارته

<<  <   >  >>