لأوروبا، بتلك المؤسسات والقوانين الحديثة. إذ أن القوانين المزروعة في غير أرضها لا تؤتي الثمر نفسه، لا بل قد تفسده، كما كان حاصلًا بالفعل آنذاك. فالقوانين المستوردة من أوروبا ليست على الإطلاق قوانين حقيقية، إذ لا أحد يفهمها، وإذن لا يمكنه أن يحترمها أو يخضع لها. ومن هنا، أوشكت مصر أن تصبح بلدًا بدون قوانين (١٢).
من ذلك أيضًا وجود نوعين مستقلين من المدارس في مصر: المدارس الدينية القديمة، وعلى رأسها الأزهر، والمدارس العصرية الأوروبية الطراز التي أنشأتها الإرساليات أو الحكومة. كان هذان النوعان منفصلين، أحدهما عن الآخر، كما كان كلاهما غير صالحين. فالمدارس الدينية كان يسودها الحمود والتقليد الأعمى، اللذان كانا الآفتين المميزتين للإسلام التقليدي. فهي تدرس الدين إلى حد ما، لكنها لا تدرس العلوم الضرورية للعيش في العالم الحديث. أما مدارس الإرساليات فكانت، بقصد منها أو بلا قصد، تجتذب الطلاب إلى دين أساتذتهم. وهناك أمثلة معروفة على طلاب مسلمين أصبحوا مسيحيين. وحتى لو لم يحصل ذلك، فإن الطالب الذي يدرس دروسًا أجنبية، بلغة أجنبية، قد يقتدي ذهنيًا بناطقيها ويصبح غريبًا عن أمته. وأما المدارس الجديدة التابعة للدولة، فقد حوت عيوب النوعين معًا. ذلك أنها كانت مجرد تقليد للمدارس الأجنبية، مع الفارق أن المرسلين قد عنوا بتعليم المسيحية في مدارسهم، بينما لم تعن مدارس الحكومة بتعليم الدين إلا شكليًا، ناهيك بانصرافها عن تعليم الفضائل الاجتماعية والسياسية (١٣).
ووراء هذا الانقسام بين المؤسسات يكمن انقسام في العقليات. ففي أيام محمد عبده كان هذان النظامان في التربية قد خلقا طبقتين مختلفتين من المثقفين في مصر، لكل منهما عقليتها الخاصة: العقلية الإسلامية التقليدية المقاومة لكل تغيير، وعقلية الأجيال الطالعة القابلة لكل تغيير ولكل أفكار أوروبا الحديثة.