كانت أفكار عصر التنور الفرنسي قد أصبحت في ذلك الوقت مألوفة لدى الأجيال الطالعة، فانتشرت معرفة اللغة الفرنسية، وترجمت كتب مونتسكيو وروسو، كما انتشرت أيضًا مبادئ الفلسفة الوضعية، في شكلها الأصلي أو المحور، حتى أن بعض المصريين كانوا قد شربوا من رأس النبع نفسه. فهناك نسخة من كتاب لأوغست كونت بعنوان «خطاب في مجمل الفلسفة الوضعية» تحمل إهداء المؤلف إلى «تلميذي القديم» مصطفى محرمجي، وهو مهندس مصري كان محمد علي قد أرسله إلى باريس كعضو في بعثة تربوية (١٤).
لم يعن ذلك الانقسام انتفاء أساس مشترك بين الفريقين فحسب، بل عني أيضًا تهديدًا لأسس المجتمع الخلقية، بفعل روح العقل الفردي القلقة، المتسائلة دومًا والشاكة أبدًا. فقد انطوى تفكير فرنسا القرن التاسع عشر، الذي كان محمد عبده قد تأثر به تأثرًا عميقًا في أوائل حياته، على التحذير من أخطار عقلية القرن السابق الميتافيزيقية. فألح الفيلسوف الفرنسي «كونت» على أن لا بد للنظام الاجتماعي من أن يتعارض أبدًا مع البحث الدائم في أسس المجتمع (١٥)، وعلى أن المعتقدات الميتافيزيقية التي كانت ضرورية لتدمير النظام اللاهوتي، إنما هي جوهريًا سلبية وهدامة، وإنها «عقيدة تامة لنفي كل حكم نظامي نفيًا تامًا»(١٦). لذلك رأى الإمام محمد عبده أن وضع هذه الأسلحة الهدامة في أيدي من لم يفهمها كل الفهم لخطر أشد من عدم وضعها على الإطلاق. إذ أنه أدرك سرعة عطب الثقافة الغربية لدى المصري المتفرنس الذي كان يكتفي بتقليد مظاهر الحياة الأوروبية الخارجية. وفي ذلك قوله بأن «مظاهر القوة هي التي حملت الشرقيين على تقليد الأوروبيين في ما لا يفيد من غير تدقيق في معرفة منابعها»(١٧).
كان هدف محمد عبده في جميع أعماله وكتاباته، في أواخر أيامه، سد الثغرة القائمة في المجتمع الإسلامي، بغية تقوية جذوره