و «الاعتقاد المطلق بالتفكير الفردي الحر»(١٨)، وهو أمر أدى إلى تباين في الآراء والمشاعر، ثم في المصالح والأفعال. وكانت الوسيلة لإنهاء العهد الثوري «إيجاد نظام من الأفكار يقبل به الجميع، وتجسيد ذلك النظام في رموز وطقوس دينية، وحراسته على يد عدد قليل من ذوي العقول المختارة أعدت وفقًا لنظام رفيع من الانضباط والتعليم للبحث في القضايا المعقدة جدًا والمختلطة اختلاطًا كبيرًا بالشهوات البشرية»(١٩)، أي من قبل سلطة روحية جديدة تهيمن على الآراء والتصرفات الخلقية وتشرف على نظام التربية. وكان كونت يعتقد أن هذا النظام الجديد للمعتقدات المشتركة يتحقق بتطبيق الأساليب العقلية المستعملة في الرياضيات والعلوم الطبيعية على المجتمع، وبإقامة علم الاجتماع على أسس عقلية تجعل منه أيضًا نظامًا عقليًا للخلقية الاجتماعية، وقاعدة للعمل الاجتماعي، وعلمًا للسعادة البشرية. ومن هنا انطلق محمد عبده ليبين أن الإسلام ينطوي على بذور هذا الدين العقلي وهذا العلم الاجتماعي وهذا القانون الخلقي، مما يجعله صالحًا لأن يكون أساسًا للحياة الحديثة، ولأن يوجد النخبة التي تتولى حراسته وتفسيره، فتضع بذلك أساسًا لمجتمع مستقر وتقدمي. ومن شأن هذه النخبة، بالواقع، أن تكون «فريقًا وسطًا» بين القوى التقليدية والثورية التي أشار إليها كونت والتي نشاهدها بوضوح في المجتمع الإسلامي الحديث.
بالطبع، لم يقصد محمد عبده، بتأكيده أن الإسلام صالح لأن يكون الأساس الخلقي لمجتمع حديث وتقدمي، إلى القول بأن الإسلام يحبذ كل ما كان يعمل باسم التقدم، وبأن غاية العلماء الجدد ستكون مجرد إضفاء طابع شرعي على «الأمر الواقع»، بل إنما قصد إلى خلاف ذلك. فالإسلام، كما فهمه، مبدأ ردع، من شأنه أن يمكن المسلمين من التمييز بين الصالح والطالح من مختلف وجوه التغيير الحاصل. لذلك كانت المهمة التي اضطلع بها محمد عبده ذات شقين: أولًا، إعادة تحديد ماهية الإسلام الحقيقي، وثانيًا، النظر