للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

هذه الملاحظة: «أخشى أن يكون إيمانه بالإسلام ضعيفًا ضعف إيماني بالكنيسة الكاثوليكية» (٢٢). ومن ذلك أيضًا ما ألمح إليه بعض نقاده من المسلمين، كتساهله في إتمام فروضه الدينية كمسلم، بما فيها حتى واجب الصلاة اليومية (٢٣). إن مثل هذه الأقوال، حتى لو أخذت على حرفيتها، لا تقوى على الصمود لا في وجه البينة الواردة في ما كتبه هو، ولا في وجه شهادة الواقفين عن كثب على حركة تفكيره. فقد شهد رشيد رضا، كاتب سيرة حياته، بإيمانه الشخصي، قائلًا إن عبده كان في هذه الأمور يتبع التقليد الأساسي للتقوى الإسلامية، تقليد الغزالي والذين ذهبوا إلى «أن الخشوع وحضور القلب في الصلاة واجب، وهو ركن من أركان الصلاة وشرط لصحتها أو قبولها» (٢٤). والواقع أن محمد عبده قد تعرف للمرة الأولى إلى هذا التقليد على يد خاله، الشيخ درويش، الذي أنقذه من شكوكه الباكرة وتصرفاته الصوفية، ولقنه إسلام أهل السنة والجماعة. فكان سنيًا دقيقًا في المسائل الكلامية، حذرًا من النظر العقلي بحرية مفرطة في الأسرار الإلهية، منعزلًا قليلًا عن الحياة العامة مع الاحتفاظ بالروح الاجتماعية، متممًا بدقة فرائض الشريعة مع التخفيف من تحجر الأشكال الشرعية بورعه الشخصي، أي بممارسة الحضور الإلهي البعيدة كل البعد عن حلولية التصوف والمستمدة من التأمل في القرآن والولاء لشخص النبي. إلا أن تلك الشكوك لم تخل تمامًا من الحقيقة. فهي توجه النظر إلى ناحية من نواحي تفكيره، ربما بدت لنقاده دليلًا على ضعف فيه، وهي ذلك النوع من الانتقائية، أي مزج العناصر المستمدة من مدارس مختلفة في نظام واحد. فقد حصل، في أعوام دراسته، على معرفة واسعة ودقيقة لعلم الكلام السني، وظهر بوضوح في مؤلفاته ليس تأثير الغزالي فحسب، بل تأثير الماتوريدي أيضًا. بل لقد آثر، في المسائل المختلف فيها بين مدارس الكلام السنية المتنوعة، موقف الماتوردي على موقف الغزالي، كما في مسألة إمكان معرفة الخير والشر بالاستقلال عن الوحي، مثلًا (٢٥).

<<  <   >  >>