غير أننا نلمس لديه أيضًا تأثير دراسات أخرى، كدراسة ابن سينا التي أرشده إليها الأفغاني، ودراسة المعتزلة، تلك الحركة العقلية الإسلامية الباكرة التي رعاها في البدء الخلفاء العباسيون ثم قمعوها، فغدت فيما بعد عنصرًا خامدًا في الإسلام إلى أن عادت فأصبحت منذ أيام محمد عبده أحد عناصر الفكر السني الحديث (٢٦).
وتبدو الانتقائية لدى محمد عبده وكأنها تتضمن نزعة إلى التهرب من الأسئلة الصعبة. فهو، مثلًا، لم يجابه: ولو مرة واحدة، قضية خلق القرآن، وهي قضية أساسية في علم الكلام الإسلامي. فقد حذف بكل بساطة من الطبعات اللاحقة لكتابه «رسالة التوحيد» مقطعًا ظهر في الطبعة الأولى يؤيد خلق القرآن. ولعل هذا الالتباس في تفكيره هو ما أثار شكوك كرومر وبلنط وانتقادات الأزهر. والواقع أنه كان يتصرف كما لو كان ينتقي من بين مجموعة الأفكار الإسلامية تلك التي تخدم على أحسن وجه غايتين: الأولى، الحفاظ على وحدة الأمة وسلامتها الاجتماعية، مما حمله على تناسي التميزات الفكرية وتجنب إعادة فتح المناقشات القديمة، والثانية، الإجابة على بعض الأسئلة التي أثارها وقتئذ الجدل الديني في أوروبا. كانت قضاياه الفكرية قضايا الفكر الإسلامي، لكنها كانت أيضًا قضايا أوروبا القرن التاسع عشر، وبنوع خاص قضية العلم والدين. وكانت معظم الكتب الأوروبية التي قرأها من وضع المفكرين الإنكليز والفرنسيين الذين حاولوا في عصره تطبيق مناهج العلوم الطبيعية (كما كانوا يفهمونها) على الطبيعية البشرية والمجتمع والكون بمجموعه. وكان أقرب أصدقائه الأوروبيين إليه، وهو ولفريد بلنط، كاثوليكيًا فقد إيمانه على أثر مطالعته كتب داروين، لكنه احتفظ طول عمره بحنين إلى «مسيحية تطورية» يسهل عليه الإيمان بها. وكان له بعض الاتصال بالأب تيرال وبـ «المجددين» الكاثوليك. كما كان متأثرًا أيضًا بالعلماء أمثال شتراوس، ورنان، وحتى تولستوي، الذين ميزوا بين «يسوع الحقيقي» وتعاليمه،