وبين المسيحية كما فسرها القديس بولس والكنيسة الكاثوليكية. وقد قبل عبده على العموم بالفكرة التي أخذها عن رينان وسبنسر أو سمعها من بلنط، وهي أنه لا يمكن للعقيدة المسيحية في صيغتها التقليدية أن تصمد أمام اكتشافات العلم الحديث والمفاهيم الحديثة لقوانين الطبيعة والتطور. وكانت هذه الفكرة تنسجم مع النظرة الإسلامية إلى المسيحية، وهي أن يسوع كان نبيًا بشريًا حور أتباعه تعاليمه وطبيعته. غير أن محمد عبده لم يقبل بمادية المفكرين اللبراليين وأفكارهم اللاهوتية، كنظرة رينان إلى الدين بأنه نتاج حتمي للمخيلة البشرية وإلى الإنسان بأنه «ذروة الكون»(٢٧)، أو كقول سبنسر بسلطة مجهولة تتجلى في قوى الطبيعة وفي مختلف تحولاتها وتشكل «الحقيقة الأساسية الكامنة وراء جميع أشكال الدين»(٢٨). لقد بدا الإسلام لمحمد عبده على أنه وسط بين طرفين: دين منسجم تمامًا مع متطلبات العقل البشري واكتشافات العلم الحديث، مع احتفاظه بفكرة الله تعالى الذي كان في نظره، كما كان في نظر الأفغاني، الموضوع الأوحد الجدير بالعبادة البشرية والأساس الثابت للخلقية الإنسانية. فكان الإسلام، عنده، «دين الفطرة» والجواب على قضايا العالم الحديث. لذلك أيقن أن الأوروبيين «سيذوقون من فتن مدنيتهم ومفاسدها السياسية ما يضطرهم إلى طلب المخرج منها فلا يجدونه إلا في الإسلام»(٢٩).
وكانت إحدى غايات محمد عبده الرئيسية أن يظهر إمكان التوفيق بين الإسلام وبين الفكر الحديث، وأن يبين كيفية تحقيق ذلك. وقد اشترك في مناقشتين حول هذا الموضوع، إحداها مع المؤرخ الفرنسي، هانوتو، والأخرى مع اللبناني المستمصر فرح انطون. كان الجدل من مقومات فكره، غير أن الجدل له أخطاره: ففي الدفاع عن النفس قد يصبح المجادل أقرب إلى خصمه مما كان يظن. ومما يلفت النظر أن محمد عبده لم يهتم في كلتا المناقشتين بمسألة صحة الإسلام أو خطأه، بل حصر اهتمامه بأمر اتفاقه مع ما