غير أن هناك أمورًا لم يرشد القرآن أو الحديث إليها بوضوح، إما لأن نص القرآن فيها غير صريح، أو لأن هناك شكًا في صحة الحديث الخاص بها، أو لأن القرآن والحديث اكتفيا بإيراد مبدأ عام حولها دون إيراد حكم خاص بها، أو لصمت القرآن والحديث عنها. فعلى العقل، في مثل هذه الحالات، أن يقوم بدور المفسر. وهكذا يصبح الاجتهاد الفردي ليس جائزًا فحسب، بل ضرورة جوهرية أيضًا. على أنه يجب أن يتم ضمن حدود معينة، إذ لا يجوز للتفسير أن يتعارض مع ما نص القرآن والحديث عليه. أما إذا كان فيهما ما يبدو منافيًا للعقل، فعلى المجتهد أن يتحرى عن معنى الألفاظ الحقيقي، وإلا فليسلم أمره لله ويقبل بالنص كما هو (٣٨). لكن المكلفين بالاجتهاد هم فقط الحائزون على المعرفة الضرورية والمقدرة العقلية. وأما الباقون، فعليهم إتباع أي مجتهد يثقون به. لكن العقل يبقى حرًا ضمن هذه الحدود ولا نهاية لمهمته. فالإجماع لم يكن لمحمد عبده مصدرًا ثالثًا من مصادر العقيدة والشريعة مساويًا لهما. وإذا كان قد قام مع الزمن نوع من الإجماع، أي نوع من التعبير عن رأي الجماعة المشترك، فإنه لم يكن إجماعًا معصومًا قط، ولم يكن من شأنه إغلاق باب الاجتهاد.
هذه هي، في نظر الإمام محمد عبده، مبادئ الدين الحقيقية التي جاء محمد يدعو إليها. غير أن رسالته لم تكن للدعوة فحسب، بل لتأسيس مجتمع أيضًا. إذ لا يمكن إلا لنبي أن يقوم بهذه المهمة. فالناس، إذا ما تركوا لأنفسهم، أساؤوا بحكم شهواتهم استخدام حرية الإرادة (٣٩)، وهم لا يصغون إلى صوت الفيلسوف، بل إلى صوت الزعيم الديني. فالدين أقوى عامل في النظام الخلقي لدى العامة، لا بل لدى الخاصة (٤٠)؛ والنبي وحده يستطيع أن يدخل في حياة البشر مبدأ منظمًا يقبلون به. فما هو هذا المبدأ؟ وما هو المجتمع الأمثل الذي أنشأه محمد؟ كان المجتمع، في نظر محمد عبده وجمهور المفكرين المسلمين، جهازًا من الحقوق والواجبات