يربط بينها التضامن الخلقي والاعتراف المتبادل بالحقوق والتناصح والتعاون على القيام بالواجبات، تجسد في شريعة مستمدة من الوحي على أسلوب معين. وهنا يدخل محمد عبده في نظرية الشريعة مفهومًا لم يكن دون أصول في التفكير الإسلامي، إلا أن هذا المفهوم مدين بعض الشيء للنظرية الأوروبية في القانون الطبيعي وللفلسفة التقنية. كان ابن تيمية وغيره من المفكرين قد ميزوا بين العبادات وبين المعاملات. فتبنى عبده هذا التمييز، مؤكدًا أن هناك فرقًا جوهريًا بين تعاليم الوحي الخاصة بكل منها. فالقرآن والحديث حددا قواعد معينة للعبادات. أما المعاملات، فلم يحددا لها في الغالب سوى مبادئ عامة، تاركين للناس مهمة تطبيق هذه المبادئ على شتى أحوال الحياة. وهذه هي دائرة الاجتهاد المشروعة، دائرة الرأي البشري إذا مارسناه بمسؤولية ووفقًا لمبادئ معينة.
وهكذا كانت ميزة المجتمع الإسلامي الأمثل، عند محمد عبده، لا تنحصر في الشريعة، بل تتناول العقل أيضًا. فالمسلم الحقيقي هو الذي يستعمل عقله في شؤون العالم والدين. والكافر الحقيقي وحده هو الذي يطبق عينيه على نور الحقيقة ويرفض النظر في البراهين العقلية (٤١). وخلافًا لما يقوله الخصوم، فإن الإسلام لم يدع قط إلى تعطيل عمل العقل، إذ هو بالعكس يؤيد كل بحث عقلي وكل علم (٤٢). وهذا ما كان بالواقع موضوع المناقشة بين محمد عبده وفرح انطون. فقد ادعى فرح انطون، في كتابه عن ابن رشد (١١٢٦ - ١١٩٨)، أن الإسلام قضى على الروح الفلسفية. وهو بذلك لم يكن يعني، ضرورة، وهو من تلامذة رينان، أن المسيحية كانت أكثر مؤاتاة للعلم والفلسفة. لكن محمد عبده حسبه يعني ذلك، فأجاب بأن المسيحية غير متساهلة بطبيعتها، وهي عدو التفسير العقلي والبحث الحر، وبأن المدنية الغربية الحديثة لا علاقة لها بالمسيحية، إذ أن هذه المدنية لم تقم إلا بعد أن رفض مفكرو أوروبا وعلماؤها تعاليم المسيحية وأخذوا بمبدأ المادية بديلًا عنها (٤٣). أما الإسلام، فهو