الإسلام، قد حرموا موهبة فهمه واكتناه معنى رسالة النبي، فشجعوا، خدمة لمصلحتهم، الرضوخ الأعمى للسلطة، وثبطوا عزيمة أصحاب التفكير الحر من رعاياهم، واعتبروا المعرفة عدوهم الأكبر، لأنها تكشف للرعايا سوء سلوك الحكام. فلا عجب إن هم حشروا مؤيديهم في صفوف العلماء لترويض المؤمنين على الجمود والخمول في شؤون الإيمان وعلى الخضوع للسلطة السياسية. وبفساد العلماء، أخذ كل شيء في الإسلام يصيبه الانحلال. ففقدت اللغة العربية نقاوتها، وتفككت الوحدة بفصل المذاهب الدينية بعضها عن بعض فصلًا صريحًا. كما ساءت التربية، وفسدت العقيدة نفسها، باختلال التوازن بين العقل والوحي وإهمال العلوم العقلية (٥٠).
وهكذا أفسد الحكام الإسلام. فانتشرت الفوضى الفكرية بين المسلمين برعاية الحكام الجهلاء (٥١). وقد استمر هذا الجهل وهذا الفساد حتى يومنا هذا. وما قاله محمد عبده في أتراك القرون الوسطى كان بوسعه أيضًا قوله في السلاطين العثمانيين. إذ كانوا هم أيضًا، في نظره، دعائم التقليد الغبي في شؤون الدين. وكم كان يكره الشيخ أبا الهدى، المستشار الخاص للسلطان والمحامي عن نظرة صوفية مختلفة جدًا عن نظرته.
وفيما كانت الشعوب الإسلامية تفقد فضائلها ثم قوتها، كانت أمم أوروبا تزداد قوة وتمدنًا، فتمارس على طريقتها الخاصة الفضائل الاجتماعية الجوهرية، فضائل العقل والنشاط، وتجني ثمارها. وقد أدرك محمد عبده أن الشعوب الإسلامية لن تصبح قوية ومزدهرة إلا إذا اقتبست من أوروبا العلوم التي نتجت عن نشاطها العقلي، وأن هذا الاقتباس يمكن تحقيقه بدون التخلي عن الإسلام. إذ أن الإسلام يحث على قبول جميع منتجات العقل. غير أن ذلك يقتضي تغييرًا في مؤسسات المجتمع الإسلامي: في نظامه الشرعي، ومدارسه، وأساليب الحكم فيه.
فعلى المسلمين اليوم، في نظر محمد عبده، أن يقوموا بما كان