وعندما احتل محمد عبده منصبًا نافذًا، استطاع أن يقوم بوضع بعض هذه الأفكار موضع التنفيذ. فأنشئت بإيعاز منه، بلجنة رأسها هو لوضع توصيات بشأن إصلاح الأزهر، تبنتها الحكومة بقانون يقضي بإنشاء مجلس إداري وبتنظيم شروط قبول الطلبة وقواعد السلوك والامتحانات وبتعديل مواد التعليم (٥٥). وقد أنشئ المجلس الإداري فعلًا، وكان محمد عبده انشط إعطائه، وقام بتنفيذ بعض المقترحات: كاستبدال كتب التدريس القديمة بدراسة مباشرة لآثار أئمة الفكر الإسلامي، وإضافة علوم كانت مهملة، إلى مواد المنهاج الدراسي، كالأخلاق والتاريخ والجغرافيا. غير أن هذه المحاولة اصطدمت بمقاومة المحافظين في الأزهر، فضلًا عن الخديوي عباس. وكان الأخير على علاقة سيئة بمحمد عبده كما كان حريصًا على الصلة التقليدية الوثيقة القائمة بين الحاكم والأزهر منذ عهد المماليك. وهكذا استقال محمد عبده من المجلس، في ١٩٠٥، على أثر بيان للخديوي كان مسيئًا إليه (٥٦). غير أن الاندفاع الذي ولده في مضمار إصلاح الأزهر لم يتوقف تمامًا بعد موته. فرأس الأزهر، في الخمسين سنة الأخيرة، عدد من تلاميذه وأتباعه، تمكنوا، بالرغم من المقاومة الداخلية والخارجية، من مواصلة عمله وإن بشكل متقطع. وإذا كان الأزهر اليوم يختلف عما كان عليه في زمن محمد عبده، فمعظم الفضل في ذلك عائد إليه.
عندما كتب محمد عبده عن المؤسسات السياسية، كانت تتجاذب أفكاره، كما تجاذبت أفكار أستاذه الأفغاني، نزعتان: فكرة الوحدة السياسية للأمة بمعناها الإسلامي، وفكرة الأمة بالمعنى الحديث. لكننا إذا ما محصنا نظرته إلى الأمة عن كثب، اتضح لنا أن هذا التجاذب كان ظاهريًا أكثر منه فعليًا. فقد جاء عرضه الأول لها، إذا صح التعبير، في كتاب ويلفريد بلنط:«مستقبل الإسلام». ففيه يزعم بلنط أن معظم الآراء التي يعرضها هي آراء محمد عبده. ويمكننا التسليم بذلك، لكن إلى حد معين. فالكتاب، كما سنرى