للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

الوسطى: حاكم عادل يحكم وفقًا للشريعة وبمشورة أعيان الشعب. وقد ذهب إلى أبعد من خير الدين، فاعتبر أن هذا الحكم هو الملكية المقيدة الدستورية. لكنه لم يكن يعتقد أن مصر كانت معدة له بعد. إذ كانت تفتقر، قبل كل شيء، إلى تدريب تدريجي في فنون الحكم قبل أن تستطيع أن تحكم ذاتها. لذلك كان عليها، أولًا، إنشاء مجالس محلية، ثم مجلس استشاري، ثم أخيرًا جمعية تمثيلية (٦٣).

هذه هي الأفكار التي استقر عليها محمد عبده، فعبر عنها في مقالاته الباكرة وكررها في أعوامه الأخيرة. غير أنه مر، فيما بين الفترتين، بفترة كان فيها على شعور قومي عارم بلغ حد الاستعداد لتأييد التدابير العنيفة. فقد دفعه إلى الحياة السياسية في الأعوام الأخيرة من حكم إسماعيل تأثير الأفغاني وتردي أحوال مصر. وإذ بلغت الأزمة ذروتها، ازدادت آراؤه تصلبًا. وكانت مقاومته لأوتوقراطية الخديوي لا تقل عن مقاومته للتدخل الأجنبي. فقد كتب إلى بلنط في نيسان ١٨٨٢: «إن كل مصري يكره الأتراك ويبغض ذكراهم اللعينة» (٦٤). وقد رافقته مرارة ذلك الشعور طيلة المدة التي كان يعمل فيها مع الأفغاني جنبًا إلى جنب في باريس. وعندما زار إنكلترا في ١٨٨٤، لاحظ بلنط أن «الشعور المسيطر عليه إذ ذاك إنما كان بغض إنكلترا، وقد اختلطت به كراهيته للجراكسة» (٦٥). وقد أخذ بلنط منه، في أثناء تلك الزيارة، حديثًا لمجلة بول مول، كرر فيه المطلب المصري بالاستقلال، قائلًا: «لا تحاولوا إسداء الخير لنا بعد. فخيركم قد ألحق بنا الكفاية من الضرر» (٦٦).

وعندها عاد إلى مصر بعد سنوات المنفى، عاد إلى الاعتدال الرصين الذي تميزت به حياته الأولى. ويقول البعض إن سبب ذلك هو تعهد قطعه على نفسه للخديوي توفيق عندما سمح له بالعودة. لكنه من الأسهل شرحه بتضاؤل تأثير الأفغاني فيه وبذكرى ١٨٨٢ التي سمحت لمعتقداته الأساسية أن تثبت نفسها من جديد. فإن ما

<<  <   >  >>