كانت مصر تحتاج إليه، بناءً على هذه المعتقدات، إنما هو عهد من التربية الوطنية الحقيقية؛ وعلى ضوء هذه الحاجة يجب النظر إلى كل قضية سياسية أو اجتماعية. فإذا كان الحكم الدستوري يحول دون تلبية هذه الحاجة، فهذا دليل على أنه فاسد أو على الأقل أنه سابق لأوانه. وإذا كان الحكم الأوتوقراطي أو حتى الحكم الأجنبي يساعد على تحقيق ذلك فيجب تحمله. إذ ليس هناك من سبيل سياسي محض إلى النضوج السياسي والاستقلال الحقيقي. وقد انتقد في أعوامه الأخيرة أستاذه القديم الأفغاني لتصرفه كما لو كان لمثل هذا السبيل وجود. فقد قال لأحد تلاميذه:«إن السيد لم يعمل عملًا حقيقيًا إلا في مصر»(٦٧)؛ إذ كان عليه، عوضًا عن التدخل في دسائس القصر في إسطنبول، أن يقنع السلطان بإصلاح نظام التربية. وقد كتب شيئًا من هذا إلى الأفغاني نفسه، فغضب منه. ويبدو أن صلتهما قد انقطعت في أعقاب ذلك. ولما مات الأفغاني، لم يكتب محمد عبده كلمة واحدة في رثائه أو إحياء ذكراه.
ولا شك في أن محمد عبده قد حاول أن يتجنب الخطأ الذي وقع فيه الأفغاني، فخصص، كما رأينا، معظم وقته للتربية الوطنية وللإصلاح كما كان يفهمه. فعندما كان عضوًا في المجلس التشريعي، كان يصرف ساعات طويلة في مناقشاته وأعمال لجانه. لكنه لم يكن يعتبر نشاط ذلك المجلس عملًا سياسيًا، بل بالأحرى جزءًا من مهمة التربية السياسية (٦٨). ولم يكن يرغب في أن تزداد صلاحياته. فقد وصف، في مقال شهير، الكسب الذي يوفره «مستبد عادل يستطيع أن يعمل من أجلنا في مدة خمسة عشر عامًا ما لا نستطيع عمله من أجل أنفسنا في خمسة عشر قرنًا»(٦٩). لكن هذا لم يكن يعني، ولا شك، تأييدًا منه للحكم المطلق بحد ذاته. فالمستبد يجب أن يكون عادلًا. وكان عبده، كالأفغاني، ينتمي إلى أقلية المفكرين المسلمين الذين قالوا بحق الجماعة في خلع الحاكم إذا لم يكن عادلًا وكان الخير العام يقتضي ذلك (٧٠).