هذه المبادئ تفسر صلة محمد عبده بالقوى السياسية في زمنه. فقد رضي بالتعاون مع البريطانيين، مع أنهم كانوا أجانب لا مسلمين، شرط أن يساعدوا في العمل من أجل التربية الوطنية، وشرط أن يكون بقاؤهم موقتًا. وكان على صلة طيبة بكرومر، مع أنه لم يكن يحب سائر الرسميين البريطانيين (٧١). فقد كتب كرومر عنه وعن رفاقه قائلًا بأنهم «الخلفاء الطبيعيون للمصلح الأوروبي»، لذلك أيده عندما أراد الخديوي عزله من منصب الفتوى (٧٢). لكن هذا لا يعني أن محمد عبده كان راضيًا كل الرضى عن السياسة البريطانية. فلو كان كرومر نفسه ذلك المستبد العادل، فلا بد له، في نظر محمد عبده، من أن يحكم بمشورة زعماء الشعب، وهو ما لم يكن مستعدًا للقيام به. وأراد محمد عبده من كرومر أن يستخدم نفوذه لدى الخديوي ليحمله على تعيين عدد أكبر من المصريين أعضاء في وزارته عوضًا عن زمرة السماسرة الجراكسة الأتراك. ومع أن كرومر أظهر، لفترة، اهتمامًا بهذه الفكرة، فإنه لم يفعل شيئًا لتحقيقها، إذ لم يعتقد أن الوزراء المقترحين كانوا أفضل من الوزراء الحاليين.
ومن ذلك أن محمد عبده كان مستعدًا للتعاون مع الخديوي لو أنه رغب في أن يكون مستبدًا عادلًا. وعندما خلف عباس حلمي أباه توفيق في ١٨٩٢، كان عبده على صلة طيبة به في البدء، وكان بوسعه التأثير عليه في بعض الشؤون. لكن الخديوي انقلب عليه عندما رآه يسعى للحؤول دون استعمال أملاك الوقف لتنفيذ مآرب القصر، كما كان يخشى نفوذه في الأزهر. وأدرك عبده أن الخديوي لن يتنازل أبدًا عن امتيازاته ولن يقبل بإشراك وزارة مسؤولة في سلطته. فأثار ذلك في نفسه الكراهية التي كانت تكنها قلوب الفلاحين المصريين لأسرة محمد علي. وفي مقال كتبه بمناسبة الذكرى المئوية لاعتلاء محمد على عرش مصر، نوه بالناحية السوداء من منجزات الرجل الذي كثيرًا ما كان يلقب بصانع مصر الحديثة، فقال:«إنه لم يستطع أن يحيي، ولكن استطاع أن يميت». فمن