إجماع. حتى ولا عند الجيل الأول، ولا يمكن أن يكون. وهذا يعني أن للأمة الإسلامية صلاحية التشريع. فصلاحيات حكام الأمة لا تقتصر على الصلاحيات التنفيذية والقضائية، بل تتعداها إلى صلاحيات التشريع في سبيل المصلحة العامة. وإذن، من الممكن وضع قوانين خاضعة للشريعة، بحيث يتغلب حكم الشريعة على حكمهم في حال التصادم بينهما. لكنها تبقى، في غير ذلك من الحالات، مستقلة تستمد قوتها الإلزامية من مبادئ الإسلام العامة. إذ من حق الأمة الإسلامية، بل من واجبها أيضًا أن «يكفل نظامها اشتراع عادل يناسب حالتها التي وضعها فيها تاريخها الماضي»(٣٠).
هذا لا يعني، ولا شك، أن لكل مسلم الحرية في استخدام عقله لوضع القوانين التي يرتئيها. فمهمة وضع القوانين ومبادئ الخلقية الاجتماعية وتعديلها إنما هي من اختصاص «أهل الحل والعقد»، أي أصحاب السلطة في الأمة أو في هيئاتها السياسية، أو بتعبير آخر، أصحاب المسؤولية تجاه الإسلام. وكان رشيد رضا، عندما يستعمل هذه العبارة، يفكر، على غرار الفقهاء المسلمين بعد سقوط الخلافة، بتلك الشراكة بين نوعين من السلطة: سلطة الحاكم المسلم الورع العادل، وسلطة العلماء الحقيقيين الذين لهم المؤهلات الشخصية لممارسة الاجتهاد. وكان يعتبر أن اشتراع القوانين، كمهام الحكم الأخرى، يجب أن يتم بالشورى بين أصحاب هاتين السلطتين. لكننا هنا أيضًا نسمع نغمة جديدة. فهو يفكر بالعلماء كهيئة منظمة، وبالشورى كعملية مدروسة، وبالشرائع الناجمة عنها كأمر يتم الوصول إليه بنوع من الإجراءات الشكلية. وهذا يعني الاستعاضة عن مفهوم الإجماع القديم بمفهوم جديد، هو الإجماع كمبدأ تشريعي لا قضائي، يتم بين علماء كل عصر بأساليب شبيهة بالأساليب البرلمانية. وهذا هو، في نظر رشيد رضا، المفهوم الأصيل للتشريع في الإسلام، الذي انتابه الغموض على ممر الزمن، إلا أنه لم يعدم من يتذكره من علماء الشريعة الذين كان يخرسهم، باستثناء أكابرهم،