المذاهب السنية والشيعية والمسيحية واليهودية. لأنها كانت، في نظرهم، تنشر عقائد جديدة وخطرة. حتى أن نعمان الألوسي نفسه، الذي كان زعيم حركة إصلاح إسلامية لا تختلف عن حركة محمد عبده، قاومها هو أيضًا. وقد انقضى بعض الوقت قبل أن أخذت عقائدها في الانتشار (١).
كانت هذه الأفكار تبث إجمالًا بطريقة التضمين. إلا أنه كان هناك بعض الكتاب اللبنانيين والسوريين الذين حاولوا صياغة نظرتهم إلى المجتمع بطريقة منظمة. ولعل أولهم كان فرنسيس مراش (١٨٣٦ - ١٨٧٣)، وهو من عائلة حلبية درس الطب في باريس. لقد مات في مقتبل العمر، ولم يترك لنا سوى بعض المؤلفات، منها «غابة الحق»، وهي قصة رمزية كتبت بشكل حوار يدور حول كيفية إقامة «مملكة المدنية والحرية»(٢). كانت أفكار هذا الكتاب هي الأفكار الأوروبية المنتشرة في ذلك الوقت: فوائد السلم، وأهمية الحرية والمساواة (وفيه استنكار للرق قد يكون انعكاسًا لموضوع الحرب الأهلية الأميركية)، وحاجة العرب قبل كل شيء إلى أمرين: مدارس حديثة وحب للوطن طليق من الاعتبارات الدينية (٣). وكان الكتاب يشتمل أيضًا على نقاش حول معنى المدنية، مما يدل على الأهمية التي كان يعلقها المؤلف على مفهوم هذه الكلمة. فالمدنية، في نظره، هي ما يقود الإنسان إلى كمال أوضاعه الطبيعية والخلقية (٤). وهي لا يمكن أن تتحقق إلا إذا توافرت لها بعض الشروط. وفي مقدمة هذه الشروط، التربية السياسية التي تعلم أن على الحاكم أن يكون معدًا الإعداد اللازم للقيام بمهام منصبه، وأن يكون متحليًا بصفات العقل والخلق الضرورية. ومنها أن من الواجب أن يكون الجميع متساوين أمام القانون بدون أي تمييز بينهم، وأن تكون القوانين مناسبة للمجتمع، وأن يكون الخير العام هدف الحكم. هذا فضلًا عن شروط أخرى، كتنمية العقل وتهذيب العادات والأخلاق الاجتماعية وتنظيف المدن