للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

هناك أساسًا آخر للعلمانية لا يقل عن الأول أهمية، هو الفصل بين السلطة الزمنية والسلطة الروحية، وذلك لخمسة أسباب: أولها، أن غايات السلطتين تختلف، لا بل تناقض بعضها عن البعض الآخر. فالدين يبتغي العبادة والفضيلة وفقًا للكتب المنزلة؛ ولما كان كل دين يدعي الحقيقة لنفسه ويطلب من الناس أن يسلكوا سبيله لبلوغ الخلاص، كان من الطبيعي للسلطات الدينية، إذا ما كانت ذات سلطة سياسية، أن تضطهد الذين يخالفونها وبالأخص المفكرين. أما غاية الحكم، فهي صيانة الحرية البشرية في حدود الدستور. لذلك لا تضطهد الحكومات الناس بسبب آرائهم إذا ما تركت وشأنها. ثانيًا، إن المجتمع الصالح يقوم على مساواة مطلقة بين جميع أبناء الأمة، تتعدى الفروق في الأديان. ثالثًا، إن السلطات الدينية تشترع للآخرة، لذلك كان من شأن سلطتها أن تتعارض وغاية الحكومة التي إنما تشترع لهذا العالم. رابعًا، إن الدول التي يسيطر عليها الدين ضعيفة. فالسلطات الدينية ضعيفة بطبيعتها، لأنها تحت رحمة مشاعر الجمهور، وهي تسبب بدورها ضعف المجتمع، لأنها تلح على ما يفرق بين الناس؛ والجمع بين الدين والسياسة، مما يضعف حتى الدين نفسه، إذ ينزله إلى حلبة السياسة ويعرضه لجميع أخطار الحياة السياسية. خامسًا وأخيرًا، إن الحكومات الدينية تؤدي إلى الحرب. فمع أن الدين الحق واحد، فالمصالح الدينية المختلفة تتعارض أبدًا بعضها مع بعض؛ ولما كان الولاء الديني قويًا بين الجماهير، فمن الممكن دائمًا أن يثير المشاعر (٢٩).

في هذا تكمن، ضمنًا، نظرية فرح أنطون في الدولة. فالدولة يجب أن تقوم على الحرية والمساواة، ويجب أن تتوخى بقوانينها وسياستها السعادة في هذه الدنيا والقوة الوطنية والسلم بين الأمم، ولا يمكنها أن تحقق ذلك، إلا إذا كانت السلطة العلمانية مستقلة عن أي سلطة أخرى. كان محمد عبده يوافق على بعض هذا

<<  <   >  >>