للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

القول لا كله. فهو أيضًا قد ميز بين ما هو جوهري وبين ما هو عرضي في الدين، لكن تمييزه هذا لم يكن كتمييز فرح أنطون: فهو يعتقد أنه إذا كانت جميع الأديان تنم عن الحقيقة الواحدة، فإن الإسلام، والإسلام وحده، هو، بمعنى دقيق خاص، الدين المعبر عن هذه الحقيقة بكاملها. وكان محمد عبده يقبل بأن تتمتع الحكومة بقدر كبير من الحرية في تشريعها، لكنه كان يفترض أن الشرائع الحديثة ستنمو من ضمن الشريعة، لا باستقلال عنها، فضلًا عن أنه كان يريد مشاركة متساوية، لا انفصالًا، بين الحكام وحراس الشريعة. وكان أيضًا موافقًا على أن يتمتع غير المسلمين بالمساواة القانونية والاجتماعية التامة، شرط أن تبقى الدولة دولة إسلامية. لذلك ليس من الصعب فهم رد فعله العنيف على أفكار فرح أنطون. لكنه تذرع، في الأخص، بنقطة ثانوية لدى فرح أنطون الذي لم يثرها إلا عرضًا، وهي القول بأن الإسلام اضطهد العلم أكثر مما اضطهدته المسيحية. فجاء كتابه عن الإسلام والمسيحية ردًا على ما أعتقد أن فرح أنطون قد قصد إليه. والواقع أن فرح أنطون لم يقصد تمامًا إلى ما ظهر من معنى ذلك القول الذي أثار غضب محمد عبده. إن ما أراد فرح أنطون أن يقوله هو أن انفصال السلطتين في المسيحية هو ما سهل على المسيحيين أن يكونوا أكثر تساهلًا من المسلمين، لكنه أسرع إلى التوضيح بأن سجل الديانتين يكاد يكون واحدًا من هذا القبيل. وإذا كانت البلدان الأوروبية اليوم أكثر تساهلًا، فليس ذلك لأنها مسيحية، بل لأن العلم والفلسفة جرداها من التعصب الديني الأعمى وتم فيها انفصال السلطات (٣٠). كان هذا نقضًا مباشرًا لعقيدة محمد عبده، وهي أن الدين، إذا ما عاد إلى نقاوته، يمكنه أن يكون أساسًا للحياة السياسية، لا بل يكون أساسها الثابت الوحيد. وقد أبرز فرح أنطون هذا التناقض بوضوح في ردوده على محمد عبده. فهو يذكر محمد عبده بأن العالم قد تغير: فالدول الحديثة لم تعد قائمة على الدين، بل على

<<  <   >  >>