للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

اللاحق لا يقل أهمية عن دور فكرة الإصلاح «الغربي» التي لم تكن تلك القوة إلا تعبيرًا عنها. فقد ثار اليونانيون في روسيا واليونان، وكانت ثورتهم، من جهة، محاولة لقلب الميزان الديني، بل السياسي أيضًا، في شرقي البحر المتوسط، وإحلال السيطرة الأرثوذكسية اليونانية محل السيطرة الإسلامية التركية. لكنها كانت أيضًا، من جهة أخرى، ثورة قومية تستمد وحيها لا من بيزنطية، بل من ذكريات اليونان القديمة، وتستهدف إنشاء دولة حرة في وطن الهلنيين القديم. وقد عجز الجيش عن قمع الثورة فانتهت، بعد التدخل الأوروبي، بالاعتراف باستقلال اليونان، فكان ذلك حدثًا حاسمًا في تاريخ الإمبراطورية. إذ أخذت الشعوب المسيحية الأخرى، من ذلك الحين، تفكر أكثر فأكثر بالثورة القومية وباجتذاب قوى أوروبا الليبرالية. أما الذين كانوا يرغبون في استمرار الإمبراطورية، فقد قويت لديهم فكرة الإصلاح، على اعتبار أنه لا يمكن كسب ولاء الشعوب الحكومة وتأييد أوروبا الغربية إلا بالإصلاح. وفي ١٨٢٦ آنس السلطان محمود في نفسه القوة الكافية للإقدام على خطوة الإصلاح الأولى التي كان لا بد منها، فحل فرق الإنكشارية وأبادها، دون أن يرتفع صوت واحد للدفاع عنها حتى بين المحافظين المتدينين. فلعل عجزها عن قمع الثورة اليونانية كان قد انتزع سيطرتها من مخيلة الشعب. وقد فتح هذا الحدث الباب لنصف قرن من الإصلاحات التي عرفت «بالتنظيمات»، فغدا من الممكن إنشاء جيش جديد بمساعدة المدربين الفرنسيين والبروسين، واستخدامه لإنهاء الحكم الذاتي الذي كان يستأثر به «أسياد الوادي» في الأناضول، وبعض الأمراء في الكردستان، والمماليك في بغداد. وقد تمت أيضًا إصلاحات أخرى: ففتحت مدارس لتخريج الضباط والأطباء والموظفين، وأرسلت بعثات تربوية إلى أوروبا، وأنشئت جريدة رسمية، وألغيت الإقطاعات المتبقية، وأصلحت إدارة الأوقاف، وأعيد تنظيم الحكومة المركزية، واعتمد اللباس الحديث، كعمل

<<  <   >  >>