إلا أن كل هذا لم يكن سوى إصلاحات مبعثرة، لم تتعرض للقضية الجوهرية، أي قضية الأساس المعنوي والحقوقي للإمبراطورية ومركز الرعايا المسيحيين فيها. وبقيت الحال على هذا المنوال حتى ١٨٣٩، أي إلى ما بعد وفاة السلطان محمود بقليل، إذ عمد خلفه السلطان عبد الحميد، بتأثير من رشيد باشا، على إصدار أول بيان عام لمبادئ الإصلاح، عرف بقرا ر «جلهانه» الذي يستهله بهذه المقدمة:
«من المعلوم لدى الجميع أن تعاليم القرآن المجيدة وشرائع السلطنة كانت أبدًا محترمة على عهد الدولة العثمانية الأولى، فازدادت من جراء ذلك قوة السلطنة وعظمتها، وبلغ كافة الرعايا بلا استثناء أعلى مراتب البحبوحة والازدهار. لكن حدثت، خلال المائة وخمسين سنة الفائتة، سلسلة من الأحداث والأسباب المختلفة أدت إلى تجاهل الشرائع المقدسة والأنظمة المستمدة منها. فانقلبت القوة والازدهار السابقين إلى ضعف وفقر. والواقع أن الدول تفقد استقرارها حالما تتوقف عن التقيد بشرائعها ...
لذلك، رأينا مناسبًا، ونحن على ثقة بمعونة العلي وعلى يقين بتأييد نبينا، أن نزود الولايات التي تتألف منها السلطنة بإدارة صالحة» (١٣).
إن نقطة الانطلاق في هذا الاستهلال إنما هي النظرية الإسلامية التقليدية في الدولة، القائلة بأن الدول تكون فاضلة إذا ما أطاعت الشريعة، ومستقرة إذا ما كانت فاضلة. أما الجديد فيه، فهو الاستنتاج المستخلص من هذه المقدمة، وهو أنه عندما تشح الفضيلة وتهن القوة تصبح الحاجة ماسة، لا إلى الإصلاح الخلقي فحسب، بل إلى تغيير في المؤسسات. ثم يمضي القرار، فيتساءل عما ينبغي للمؤسسات الجديدة أن تكون عليه، فيقول:
«يجب أن تقوم على الأسس الثلاثة الآتية:
١ - ضمانات تومن لرعايانا تأمينًا تامًا الحياة والشرف والرزق.