وقد أعيدت هذه الأمثولة في بيان آخر صدر، بعد مدة وجيزة، بمناسبة إنشاء الديوان الأعظم: لقد خرب الأتراك مصر بجشعهم. أما الآن، «فالطائفة الفرنسوية ... اشتاقت أنفسهم لاستخلاص مصر مما هي فيه وإراحة أهلها من تغلب هذه الدولة»(١٩).
ثم نصل إلى النداء الرئيسي الموجه إلى الشعور القومي والممتزج أيضًا بنداء موجه إلى الشعور الديني:«يا أيها المصريون! لقد قيل لكم إني ما نزلت بهذا الطرف إلا بقصد إزالة دينكم. فذلك كذب صريح، فلا تصدقوه، وقولوا للمفترين إني ما قدمت إليكم إلا لأخلص حقكم من يد الظالمين، وإنني أكثر من المماليك أعبد الله سبحانه وتعالى وأحترم نبيه والقرآن العظيم ... أيها المشايخ والقضاة والأئمة والجبربجية، وأعيان البلد، قولوا لأمتكم إن الفرنساوية هم أيضًا مسلمون مخلصون؛ وإثبات ذلك أنهم قد نزلوا في رومية الكبرى وخربوا فيها كرسي البابا الذي كان دائمًا يحث النصارى على محاربة الإسلام. ثم قصدوا جزيرة مالطة وطردوا أمتها الكوالليرية الذين كانوا يزعمون أن الله تعالى يطلب منهم مقاتلة المسلمين. ومع ذلك الفرنساوية في كل وقت من الأوقات صاروا محبين مخلصين لحضرة السلطان العثماني وأعداء أعدائه»(٢٠).
لم يكن هذا مجرد «دعاية»، على حد تعبير عالمنا المعاصر. فلعل بونابرت رأى، وهو ابن عصر التنور الفرنسي، أن الإسلام دين أقرب إلى العقل من المسيحية. وقد حافظ، حتى آخر أيامه، على اهتمام حي بالإسلام. أضف إلى ذلك أنه، بمهاجمته المماليك وبإظهار احترامه «لرجال الفضل والعلم»، كان يرسم فعلًا السياسة التي كان ينوي إتباعها: وهي نقل السلطة المحلية من أمراء المماليك إلى العلماء، زعماء مصر الشعبيين، والطبقة الحاكمة الوحيدة التي يمكن استبدال المماليك بها. إلا أنه كان من المستبعد، حتى لو استمرت إقامته في مصر مدة أطول، أن ينجح في الحكم بالمشاركة مع العلماء، لأنهم كانوا يعتقدون أن أي نفع يمكنه جلبه لمصر لا