يوازي كونه غير مسلم يحكم بلدًا مسلمًا، بدون إرادة السلطان. كما كان من المستبعد أيضًا أن تنطلي تأكيداته هذه على أحد من المسلمين. فالجبرتي نفسه، وكان من مشايخ الأزهر، يبدأ روايته للاحتلال الفرنسي بقوله: إن هذا كان بدء «انعكاس المطبوع وانقلاب الموضوع وحصول التدمير وعموم الخراب»(٢١). نعم، لم يتردد الجبرتي في الاعتراف بفضل الفرنسيين في الأمور التي كان يستحسنها، كالمعهد العلمي بصوره وخرائطه وكتبه ومجموعاته واختباراته العلمية، وكالعلماء الفرنسيين بشغفهم بالمعرفة وحرارة استقبالهم للزوار المسلمين الذين كانوا على رغبة خالصة في العلم. إلا أنه كان يشعر دومًا بالخطر على الدين والأخلاق الملازم لكل حكم غير مسلم: كتسليح الجنود المسيحيين وتدريبهم، والصلاحيات الممنوحة لجباة الضرائب من الأقباط، والتجديدات الخبيثة التي أدخلت على النظام الشرعي، وفساد المرأة. وهنا يذكر أن ابنة أكبر أعيان الدين، الشيخ البكري، كانت تخالط الفرنسيين وتلبس لباس السيدة الفرنسية، ولذلك أعدمت بعد عودة الأتراك (٢٢).
لعل شيئًا من ذكرى البيان والمعهد قد علق في أذهان شيوخ الأزهر، أو لعل الإدارة الفرنسية المنظمة التي كان الجبرتي معجبًا بها قد تركت أثرها في ذهن محمد علي، الذي تسلم السلطة، في ١٨٠٥، وسط البلبلة التي أحدثها رحيل الفرنسيين. فسعى إلى جعل مصر دولة حديثة على نمط ما فعله السلطانان سليم ومحمود. ولتحقيق ذلك، أزال العقبة الرئيسية أمام سلطته وأمام الإصلاح بإبادة المماليك واستملاك أراضيهم. وقد أنشأ جيشًا وبحرية حديثين، تدربا على أيدي الضباط الفرنسيين، كما أقام نظامًا مركزيًا للإدارة والضرائب كان على درجة لا بأس بها من الفعالية. غير أن إصلاحاته لم تكن منبثقة عن عقيدة ما، شأنها في ذلك شأن إصلاحات سليم ومحمود. فقد قام بها، قبل كل شيء، لتدعيم مركزه الخاص تجاه مولاه ورعاياه والدول الأوروبية. ثم إنه كان، وهو الذي لم يتلق