إنشاؤه المدارس المهنية، وإيفاده طلابًا إلى أوروبا، وحمله إياهم على ترجمة المؤلفات التقنية بعد عودتهم، وتأسيسه مطبعة لطبع الترجمات، وإصداره جريدة رسمية لنشر نصوص المراسيم والقرارات. لكنه لم يرغب في أن يكتسب الطلاب من المهارة فوق ما هو ضروري، فكان يضعهم تحت مراقبة دقيقة. من ذلك أنه رفض مرة السماح لفريق من الطلاب بالتجول في فرنسا للتعرف عن كثب إلى الحياة الفرنسية (٢٧). إنما كان لا بد للأفكار الجديدة من أن تدخل مع المهارات الجديدة. وهكذا كان للمدارس والبعثات العلمية تأثير أبعد مما كان يشتهي. فقد استعان، أول الأمر، بمدرسين من الطليان، إذ كانت اللغة الطليانية، لغة المشرق العامة يومذاك، أول لغة أوروبية للتدريس. إلا أن محمد علي ما لبث أن استعاض عنها باللغة الفرنسية التي حملت معها أفكار فولتير وروسو ومونتسكيو. فمنذ ١٨١٦، دخلت مؤلفاتهم مكتبة إحدى المدارس (٢٨). وابتداءً من ١٨٢٦ أخذت البعثات ترسل إلى فرنسا بانتظام، فكان أعضاؤها يقرأون الكتب الفرنسية ويشاهدون الحياة الفرنسية في تلك الفترة من فترات الثورة التي تحول فيها النزاع بين الأفكار العامة إلى صراع بين القوى الحضارية. وكان معظم تلاميذ المدارس والبعثات الأولى من المسيحيين الأتراك أو المشرقيين. إلا أن العنصر المصري ازداد فيما بعد، وكان هو العنصر الذي تألفت منه الطبقة المثقفة الأولى لمصر الحديثة، هذه الطبقة التي أخذت، منذ ثلاثينيات القرن التاسع عشر، تلعب دورًا في شؤون البلاد. فكان أعضاؤها يترجمون وينشرون، إلى جانب الكتب التقنية الصرف، كتبًا أخرى. وكانوا يتعاونون تعاونًا وثيقًا مع أتباع سان سيمون في إعادة تنظيم المدارس (٢٩). وقد تخرج من بين صفوفهم أول المفكرين السياسيين العظام في مصر الحديثة، أعني به رفعت الطهطاوي.
أما المسلمون العرب في سوريا، فكان وصول المعرفة والآراء الجديدة إليهم أكثر بطءً. ومع أن العائلات الكبيرة في المدن كانت