وقامت أيضًا، بتأثير من المعاهد والإرساليات، في أواخر القرن السابع عشر، أديرة تتبع قواعد الترهب الغربي، وبنوع خاص في لبنان، في أودية تلك الجبال الحرة والمنعزلة، وتحت حماية العائلات الكبرى، درزية كانت كآل جنبلاط، أم مارونية كآل الخازن. ثم غدت هذه الأديرة نفسها مركزًا للعلم والتربية، إذ نشأت تحت جناحها معاهد للرهبان محلية ومدارس قروية. وكانت هذه المدارس تعلم الإكليريكيين والمدنيين على حد سواء. وهكذا نشأت، مع الزمن، طبقة من المدنيين المثقفين وجدوا مجالًا لمواهبهم في دواوين الحكام المحليين. ففي القرن السابع عشر، كان أمير الجبل، فخر الدين، قد أخذ يستخدم كهنة موارنة في مراسلاته الدقيقة مع بلاطات أوروبا، كما أخذ، فيما بعد، الحكام الأتراك على الشاطئ السوري، كحكام طرابلس وصيدا، يستخدمون في دوائرهم المالية مسيحيين على معرفة جيدة باللغة العربية. وقبل نهاية القرن الثامن عشر، كان المسيحيون السوريون قد تسلموا إدارة الجمارك في مصر، فاستعان بهم محمد علي، عندما خلف المماليك، في رقابته المالية وفي علاقاته مع حكام سوريا المحليين.
كان المدنيون المثقفون علماء وموظفين معًا. ففي أوائل القرن الثامن عشر، نهض عدد من المسيحيين في حلب للتعمق في علوم اللغة العربية على يد الفئة الوحيدة التي كانت تملك ناصيتها يومذاك. أعني مشايخ الدين الإسلامي. وقد كتب بعضهم الشعر والنثر الصحيحين بشغف، ومنهم امتدت شعلة الأدب العربي إلى لبنان. وكان الذين يرغبون في التوظف يدرسون اللغة العربية بحماس كجزء من إعدادهم المهني، وكانوا ينقلون إلى أولادهم ما قد تعلموه. وهكذا نشأت أسر بكاملها من رجال الأدب. وقد خرج من هذه الأسر، كآل اليازجي والشدياق والبستاني، مؤسسو نهضة العرب الأدبية في أوائل القرن التاسع عشر.
في القرن الثامن عشر، كانت طبيعة التجارة بين الشرق الأدنى