للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

وأوروبا آخذة في التغير. فجاليات التجار الأوروبية في المدن العثمانية كانت على تقهقر، أولًا لصعوبة التجارة في المناطق غير الآمنة، وثانيًا لقدرتها على تحقيق أرباحًا أوفر في بلدان أخرى. وهكذا أخذت التجارة تنتقل إلى أيدي المسيحيين واليهود الشرقيين بفضل الحماية القنصلية لهم، كما بفضل معرفتهم اللغات والأساليب التجارية الأوروبية. فتمكن المسيحيون واليهود الناطقون بالضاد، في دمشق وحلب ومدن الساحل، من أن يبنوا، على غرار اليونان والأرمن، شبكة تجارية تربط مدنهم بمدن الإسكندرية وليفورنو وتريستا ومرسيليا. فنشأ عن ذلك فئة جديدة على معرفة مباشرة بالحياة الأوروبية، كانت أول فئة في الشرق الأدنى أتقنت الأساليب الحديثة للتجارة والشؤون المالية.

كانت الثقافة الغربية التي اقتبستها هذه الفئات، فئات الكهنة والتجار والكتاب، ثقافة لاهوتية، على الأخص. لقد وقفوا على آداب اللاهوت الكاثوليكي وعباداته وكانوا يطالعونها؛ لكن لا يبدو أن آداب أوروبا الرفيعة وأفكارها السياسية قد استرعت اهتمامهم قبل انقضاء شطر كبير من القرن التاسع عشر، بينما أحدث اهتمامهم الجديد باللغة العربية تأثيرًا عميقًا في حياتهم الفكرية. فأدى ذلك، قبل كل شيء، إلى إثارة وعيهم التاريخي، مما دفع بعض الكهنة المثقفين إلى دراسة آثار العرب، بالإضافة إلى دراسة تاريخ الكنائس الشرقية، وحمل غيرهم من الكهنة ومن المدنيين على الاهتمام بالتاريخ المدني أيضًا. فقامت في لبنان مدرسة من المؤرخين، كان محور عنايتها التاريخ الخاص بالجبل: نشوء طائفتيه الدينيتين، الموارنة في الشمال، والدروز في الجنوب، وترعرع الإمارة، وقيام جهاز من الأسر النبيلة تنتمي إلى الطائفتين معًا، وتطور الاستقلال العملي عن سلطة المماليك ثم عن سلطة الأتراك في البلدان المجاورة وكيفية المحافظة عليه.

كان أول مؤرخ جدير بالذكر من هذه المدرسة البطريرك

<<  <   >  >>