ومن غرابة الأقدار أن يكون الطابع العصري لحكم محمد علي هو ما أثار عليه، في آخر الأمر، نقمة السوريين، وأن يتجلى ذلك الحس الحديد بالمساواة الدينية الذي حاول خلقه في تحالف الطوائف الدينية ضده. فقد حاول إبراهيم باشا، في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، أن يدخل إلى لبنان وإلى الأقضية الجبلية الأخرى المبادئ الحديثة في فرض الضرائب وجبايتها، وأن يجرد الأهالي من السلاح، وأن يفرض التجنيد العام، فكان الاستياء العام ثمرة ذلك. وفي الوقت نفسه، كان إبراهيم باشا، بعد أن دحر العثمانيين في نزيب، قد زحف بجيشه على آسيا الصغرى، فاعتبرت جميع الدول الأوروبية، عدا فرنسا، هذا الانتصار تهديدًا لوجود الإمبراطورية، وبالتالي لمصالحها هي أيضًا. فقام تحالف فيما بينها لإرغام محمد علي على سحب جيوشه، ليس من آسيا الصغرى فحسب، بل من سوريا أيضًا. وكانت أحد تدابير الضغط عليه إمداد العناصر المستاءة في لبنان بالسلاح والمعونات الأخرى. فقامت ضده وضد الأمير بشير، الذي ظل مواليًا له، ثورة تتكشف وثائقها عن اتجاه جديد، هو التعاون بين فئات من مختلف الأديان للدفاع عن المصالح الناجمة عن العيش في وطن مشترك. ففي ١٨٤٠ اجتمع زعماء الطوائف المختلفة في كنيسة مار إلياس في انطلياس، قرب بيروت، وأقسموا اليمين على العمل معًا بأمانة لمقاومة المحاولة التي كان يقوم بها الأمير بشير والمصريون لفرض نزع السلاح والتجنيد العام، فوقعوا وثيقة هذا نصها «إنه يوم تاريخه، حضرنا إلى مار إلياس انطلياس، نحن المذكورة أسماؤنا به بوجه العموم من دروز ونصارى ومتاولة وإسلام المعروفين بجبل لبنان من كافة القرى وقسمنا اليمين على مذبح القديس المرقوم بأننا لا نخون ولا نطابق بضر أحد منا كائنًا من يكون. القول واحد والرأي واحد»(٣٣).
لعب الأوروبيون دورًا كبيرًا في إعداد هذه الثورة وتنظيمها. فقد كان في لبنان عملاء بريطانيون، نخص بالذكر منهم ريتشارد وود