الأحكام على قدر المصالح تنزيلًا» (٣٩). ثم يمضي في شرح القواعد التي عليها تنهض المصلحة العامة: أولًا الحرية، إذ أن الإنسان لا يستطيع بلوغ الفلاح إلا إذا كانت الحرية مضمونة له وكان العدل سياجًا له ضد العدوان. وثانيًا، الأمان التام. وثالثًا، وهذا متضمن في النقطة الثانية، المساواة التامة بين المسلمين وغير المسلمين أمام القانون، لأن هذا الحق إنما هو ملك لجميع الناس. ويجب أيضًا أن يكون للأجانب حقوق التونسيين، وأن يمارسوا الأعمال التجارية على أنواعها، وأن يكون لهم حق التملك. وبعد ثلاث سنوات من ذلك. أي في ١٧٦٠، صدر «القانون السياسي»، وهو نوع من الدستور، فكان أول دستور يصدره بلد مسلم في العصر الحديث. وليس من الواضح من كان وراء فكرة الدستور تلك. أيكون ريتشارد وود، القنصل البريطاني العام الذي تعرفنا إليه في بدء حياته في بلد آخر، هو الذي أوحى بها؟ لكن تونس، من جهة أخرى، لم تكن بعيدة عن إيطاليا. كذلك كان في بلاط الباي منفيون سياسيون إيطاليون، فضلًا عن موظفين تونسيين ممن أتقنوا اللغة الفرنسية وقاموا بزيارة فرنسا. فليس من الصعب، إذن، تعيين المصادر التي انبعثت عنها فكرة الدستور. إلا أن هذا الدستور كان، على كل حال، وثيقة متحفظة، تقبل بمبدأ التمثيل، لكن في نطاق حدود معينة، وتترك السلطة التنفيذية في يد الحاكم. نعم، لقد نصت أيضًا على أن يقسم الحاكم أنه لن يقوم بأي عمل مخالف «لعهد الأمان». وأنه مسؤول عن أفعاله أمام المجلس الأعلى؛ لكن كان من المقرر أيضًا أن يضم هذا المجلس وزراء أو موظفين بمعدل ثلث أعضائه، وأن يعين الباي فيه الثلثين الآخرين في بادئ الأمر، ثم يصار إلى ضم أعضاء جدد في فترات دورية.
لم يعمر اختبار الحكم الدستوري طويلًا، بل انهار بعد بضع سنوات، بسبب أزمة مالية، وهيجان بين القبائل، وضغط إنكلترا وفرنسا وتنافسهما، ورغبة الباي في الاحتفاظ بسلطته اللامقيدة.