الحسن ويعاقب على السيئ، هو الله الذي سيقف بين يديه الظالم والمظلوم. وربما أحسن إليّ هذا الذي سرق كتبي، لأنني آخذ منه حقي يوم يُلغى التعامل بالريال وبالدولار وبالينّ وبالمارك، ولا يبقى إلا التعامل بالحسنات، فمن كان له حق أخذ من حسنات مَن عليه الحق أو ألقى عليه من سيئاته.
ومن السرقات ما لا يعوَّض. كان في متحف دمشق مجموعة من الدنانير الأموية بقيت بعد هذا الزمان الطويل وقلّ أمثالها، سرقها مرة لصٌّ فأذابها وجعلها سبيكة فأضاع قيمتها التاريخية وإن حفظ كتلتها الذهبية؛ كالذي سرق دفتري في رحلة الحجاز، وقد حدّثتكم خبره (١)، ودفتراً آخر ضخماً كتبت فيه بخطّي مباحث علم النفس والفلسفة لمّا كنا ندرسها سنة ١٩٢٩ (١٣٤٨هـ)، وكان عزيزاً عليّ لأن فيه فصلاً من تاريخ حياتي ولأن فيه قطعة من نفسي، لست أدري من سرقه من بيتي. وما سرقه لص محترف تسلق الجدار أو كسر الأقفال، ولكن سرقه واحد ممّن أدخلته أنا داري لا يعلم إلا الله وحده من هو.
(١) في «الذكريات»؛ خبّرنا كيف اتخذ من أول الرحلة دفتراً يصف فيه ما يراه ويفصّل فيه أخبار الرحلة، ثم قال: "حتى إذا دنونا من المدينة وأوفى الكتاب على التمام وقاربَت الرحلة الغاية، امتدّت يدٌ لم أعرف صاحبها (الله وحده يعرفه) فذهبَت بالدفتر. ولا تزال لوعة فقده في قلبي إلى اليوم، ولو فقدت مالي لكان أهون عليّ لأن المال يُعوَّض، والريالات والليرات والدولارات تختلف مقاديرها عدداً ولكن تتفق أفرادها شكلاً، كالكتاب المطبوع يضيع منك فتشتري غيره. أما ذلك الدفتر فمن أين آتي بمثله؟ "، انظر «الذكريات» ٣/ ٢٩ من الطبعة الجديدة (مجاهد).