للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

القراء والقَبول في الناس، جاؤوا يقبضون أجرة هذا الجهد الأول. فيزدحم عليهم الناشرون وأصحاب المجلات يطلبون منهم أن يكتبوا لهم، فيكثر في أيديهم المال ويقلّ الوقت، فيكتبون ما يخطر على البال، لا يجوِّدون ولا يحسنون، يرمون المقالة لا يبالون أجاءت بالطول أم بالعرض ... وماذا يصنعون والناشرون لا يَدَعون لهم وقتاً لتجويد؟

وأصعب منه أن يُقال لك اكتب لنا في موضوع كذا، فإذا تأخرت أو تقاعست عتبوا عليك ولاموك. يحسبون أن الأفكار في رأس الكاتب كالدراهم في كيسه والبضائع في مخزنه، لا يكلّفه إعدادها إلاّ أن يَمُدّ يدَه فيأتي بها، لا يدرون أن للنفس إقبالاً وإعراضاً، وأنها يسلس قيادها تارة وتَحْرُن تارات، وأن من كبار الكتّاب من تمرّ به أيامٌ كلما حاول الكتابة فيها وقفت يده وجمد قلمه ونضب فكره، كأنه لم يكتب شيئاً قط! وأن الفرزدق، وهو مَن هو في الشعر، كان يقول: إنها لتجوز عليّ ساعات لَقَلْعُ ضرس من أضراسي أهون عليّ فيها من بيت من الشعر! وأن جريراً، الذي كان يغرف في شعره من بحر، قضى ليلة بطولها يتمرّغ ويتلوّى كالنُّفَساء التي تعاني آلام الوضع، حتى وضع قصيدته «الدمّاغة» (١) عند مطلع الفجر!


(١) هي بائية جرير الشهيرة التي هجا فيها بني نُمَير، هو سماها «الدمّاغة». سهر فيها ليلة كاملة يتقلب على فراشه -كما في كتب الأدب- حتى كان السّحَر، فإذا هو قد قالها ثمانين بيتاً في بني نمير، فلما ختمها بقوله:
فَغُضَّ الطَّرْفَ إنك من نُمَيرٍ ... فلا كَعْباً بلغتَ ولا كِلابا
كبّر ثم قال: قد والله أخزيتهم إلى آخر الدهر. وهذه القصيدة تسميها=

<<  <   >  >>