ولو كنا في بلاد تدع الكاتب يقول ما يشاء (مما لا يقدح في خُلُق ولا دين) لهان الأمر، ولكن القراء لا يُسيغون إلا لوناً واحداً من الكلام، فإن بدّلته لهم أو جدّدت فيه لم تحتمله نفوسهم، وأصابهم منه سوء هضم عقلي، يُعقِب نوبةَ ثورة، يصيب الكاتبَ شرارُها أو تحرقه نارها. فهو مضطر أن يكون في عواطفه وآلام قلبه في واد، وفيما يكتب للناس في واد.
والقراء يأخذون المجلة ليمروا عليها نظرة مسرعة وهم راكبون في الترام أو منتظرون الطعام أو متهيئون للمنام، فلا يحاولون أن يستمتعوا بها أو يستفيدوا منها، بل يحاولون انتقاصها وتجريح صاحبها. ما يدرون أن هذا الكلام الذي يقرؤونه في دقائق قد كلف صاحبه تفكير ساعات وجهد أيام، وأنه مرّ على هذه الأفكار -من يوم أن كانت بذرة في النفس ألقتها فيها رياح المصادفة، وسَقَتْها ملاحظة عابرة، ثم غذّتها الفِكَر والمشاهدات والذكريات والأحلام، إلى أن صارت مقالة مقروءة- أكثرُ مما مر على الرغيف من يوم أن كان سنبلة في الحقل إلى أن وُضع على المائدة. وربما كان الرغيف مُرّاً أو محروقاً أو غير ناضج، ولكنه لم يصل إليك حتى اعتوَرَته هذه الأيدي كلها ومرت به هذه الأطوار جميعاً.
* * *
فيا أيها الأخ، أرجو قبل أن تسأل عن علي الطنطاوي، وما باله لا يعطي المجلة خير ما عنده، وهل شاخ أم هرم أم أصْفَى كما تُصفي الدجاجة (١)، أن تسأل القراء: هل يَدَعون لي أن أقول
(١) يقال: أصفى الشاعرُ إذا انقطع شعره، وأصفت الدجاجة إذا انقطع بَيضها (مجاهد).