للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وأتقاهم- ركب يومًا في شدة البرد في الشتاء، فرأى في شاطئ دجلةَ صيادًا قائمًا في الماء بيده شبكةٌ، فقال لحاجبه: هذه مئةُ دينارٍ احملْها إليه، فإنه لم يخضِ الماء في هذا البرد الشديد إلا لضرورة، وقل له: استعنْ بهذه الدنانير، وانصرفْ إلي أهلك، فجاء الحاجبُ، وصاح به، فلم يُجبه، وتزاحم الناس على الشاطئ للنظر، فقرب الحاجب منه، وسلَّم عليه، وقال له: أثقيلُ السمع أنت يا رجلُ؟ فلم يلتفتْ إليه، وقال: أنا صحيحُ الجوارح والجسد، وقال: وقد ازدحم الناس يتصايحون، وأنت مطرقٌ رأسَك لا تبالي، فقال: هؤلاء بطّالون فيما لا تحتاج إليه، وما لي في ذلك من حاجة، فقال الحاجب: إن مولانا رآكَ على هذه الحالة، فرحمَكَ، وأمر لك بهذه الدنانيرِ مئة صحاح، فقال: ومَنْ مولاك يا عبد الله؟ قال: مولاي الوزيرُ أبو محمد، قال: بل مولانا ومولاه الله تعالي، أمّا رحمتُه إيّاي، فأنا أَوْلي أن أرحمه؛ لأنه اجتمع عليه أثقال هذه الأعمال في الدنيا، وأوزارُها في الآخرة، وأمّا ما أنفذَ إليّ، فلا يخلو من أحد أمرين: إما أن يريدَ اللهَ تعالي، أو الرياءَ والسمعةَ، فإن أراد اللهَ تعالي، فليردَّ [هُ] على الذين عفتهم حقوقهم، وإن أراد الرياءَ والسمعة، فليفرِّقْها في مئة نفر، فتظهر في الأسواق، ويكون أعظم لذكره وأكثرَ؛ فإني رجلٌ خاملٌ، ولا حاجة لي فيها، وأنا من ربي بخير، فأراد الحاجبُ أن يجيبه، فلم يلتفت إليه، ولم يسمع كلامه، وانصرف الحاجب بالدنانير منكسِرًا خائبًا، ولم يقبل منه شيئًا.

أخبرنا جماعةٌ من شيوخنا، أنا ابنُ المحبِّ، أنا أبو محمّدٍ عبدُ الرحمنِ بنُ عبدِ الواحدِ، وجَدِّي أبو العباسِ، قالا: أنا عبدُ الله

<<  <   >  >>