للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

تمر الصبا صفحا بساكنة الغضى ... ويصدع قلبي أن يهب هبوبها (١)

قريبة عهد بالحبيب وإنما ... هوى كل نفس حيث حل حبيبها

فالبيت الأول عندهم فصيح وبليغ لاشتماله على نعوت الجودة مع الفخامة والجزالة، والبيت الثاني بليغ وليس بفصيح، لتضمنه نعوت الجودة دون الفخامة والجزالة.

وربما كان ضياء الدين بن الأثير (٢) أكثر من غيره تصورا وفهما لمعنى الفصاحة، وذلك حيث يقول: «لم يزل العلماء من قديم الوقت وحديثه يكثرون القول في الفصاحة والبحث عنها، ولم أجد من ذلك ما يعوّل عليه إلا القليل، وغاية ما يقال من هذا الباب أن الفصاحة هي الظهور والبيان في أصل الوضع اللغوي، يقال: أفصح الصبح إذا ظهر، ثم إنهم يقفون عند ذلك ولا يكشفون عن السر فيه، وبهذا القول لا تبين حقيقة الفصاحة، لأنه يعترض عليه بوجوه من الاعتراضات:

أحدها أنه إذا لم يكن اللفظ ظاهرا بينا لم يكن فصيحا، ثم إذا ظهر وتبين صار فصيحا.

الوجه الآخر أنه إذا كان اللفظ الفصيح هو الظاهر البين فقد صار ذلك بالنسب والإضافات إلى الأشخاص، فإن اللفظ قد يكون ظاهرا لزيد ولا يكون ظاهرا لعمرو، فهو إذن فصيح عند هذا غير فصيح عند هذا، وليس الأمر كذلك بل الفصيح هو الفصيح عند الجميع، لا خلاف فيه بحال من الأحوال، لأنه إذا تحقق حد الفصاحة وعرف ما هي، لم يبق في اللفظ الذي يختص به خلاف.

الوجه الأخير أنه إذا جيء بلفظ قبيح ينبو عنه السمع، وهو مع ذلك ظاهر بيّن ينبغي أن يكون فصيحا، وليس كذلك لأن الفصاحة وصف حسن


(١) الصبا: الريح تهب من مطلع الشمس. الغضى: شجر من نبات الرمل. يصدع: يشق.
(٢) كتاب المثل السائر لابن الأثير ص ٢٦ - ٢٧.

<<  <   >  >>