وكما يشترط في فصاحة الكلام أن يسلم من التعقيد اللفظي فإنه يشترط فيه كذلك أن يسلم من التعقيد المعنوي، وهو استعمال الكلمات عند إرادة التعبير عن معنى خاص في غير معانيها الحقيقية، وبذلك يضطرب التعبير، ويصعب الوصول إلى المعنى المراد. مثال ذلك قول العباس ابن الأحنف:
سأطلب بعد الدار عنكم لتقربوا ... وتسكب عيناي الدموع لتجمدا
فالمعنى الذي قصد الشاعر التعبير عنه في هذا البيت هو: أطلب وأريد البعد عنكم أيها الأحبة لتقربوا، إذ من عادة الزمان الإتيان بضد المراد، فإذا أريد البعد يأتي الزمان بالقرب، وكذلك أطلب الحزن الذي هو لازم البكاء ليحصل السرور بما هو من عادة الزمان.
فالشاعر أراد هنا أن يكني عما يوجبه دوام التلاقي من السرور بالجمود، لظنه أن الجمود هو خلو العين من البكاء مطلقا من غير اعتبار شيء آخر. وقد أخطأ الشاعر في مراده إذ جمود العين هو خلوها من الدمع أو بخلها بالدمع الذي هو لازم البكاء عند إرادة البكاء منها، كقول أبي عطاء يرثى ابن هبيرة:
ألا إن عينا لم تجد يوم واسط ... عليك بجاري دمعها لجمود
إذن فالجمود لا يكون كناية عن السرور بل عن البخل، وبهذا يكون الانتقال من جمود العين إلى بخلها بالدموع، لا إلى ما قصده الشاعر من السرور.
فالشاعر، كما نرى، استعمل الكلمات في غير معانيها الحقيقية، أو بعبارة أخرى لم يكن موفقا في اختيار الكلمات المعبرة عن معناه تعبيرا جليا واضحا، ومن ثم عقد المعنى أو وقع في التعقيد المعنوي الذي أخلّ بفصاحة البيت.
ولعلنا أدركنا على ضوء هذا الشرح كيف أن فصاحة الكلام لا تتأتى