فأدركتُ بالحدس أن التصديق بوجود الرب المعبود عقيدة فطرية في نفس كل بشر، ولكن الأمن والصحة والمطامع والشهوات قد تلقي ستاراً عليها يخفيها ويغطيها. وهذا هو «الكفر»، وهو في اللغة «الستر»، ومعنى الكافر الساتر.
وجاء العقل فأيّد هذا الحدس حين رأى في كل شيء دليلاً عليه؛ في هذا العالَم وإتقانه، وهذا الجسد وعجائبه، وفي سنن الكون وأسراره التي أودعها فيه خالق الكون وأعطانا العقول وقال لنا: اكشفوا بعقولكم هذه السنن والأسرار، فسعينا حتى عرفنا بعضاً منها في عالم الكيمياء والفيزياء والطب والفلك، وفي الأرض وفي الفضاء القريب الذي يحيط بالأرض، ولم نعرف إلى اليوم إلا الأقل الأقل منها.
فآمن العقل بأن هذه الصنعة العجيبة لا تكون من غير صانع، وهذه الطبيعة لا بدّ لها من طابع، وهذا الخلق لا يكون بغير خالق.
وأن هذا الخالق لا يمكن أن يشبه المخلوقات، وإلا كان منها واحتاج -مثلها- إلى الخالق، وأنه لا يكون إلا قديماً باقياً لا أوّلَ له ولا آخر، ولا يكون إلا مفرداً واحداً لا شريكَ له ولا مثيل، ولا يكون إلا قادراً قدرة لا يُعجِزها شيء، ثم لا يكون إلا عادلاً.
* * *
ونظر العقل في هذه الدنيا فرأى بأن فيها مَن يعيش ظالماً ويموت ظالماً، وأن فيها من يعيش مظلوماً ويموت مظلوماً. والربّ العادل لا يقر الظلم ولا يدع صاحبه بغير عقاب ولا يترك من يقع