فأين تخرّج أولئك القادة؟ لقد تخرجوا في جامعة مؤلَّفة من غرفة ونصف غرفة مظلمة لا نافذة لها، تحت جبل الصفا في مكة، هي دار الأرقم بن أبي الأرقم. تخرّجوا في مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم.
وأضرب المثل بواحد من قُوّاد المسلمين، لو أنصفه التاريخ العسكري لاعتبره أعظم قادة التاريخ، أعظم من هانيبعل ومن الإسكندر، هو خالد بن الوليد الذي تجلّت عبقريته في الدفاع وفي الهجوم كما تجلّت في الانسحاب، يوم انسحب من معركة مؤتة بثلاثة آلاف كانوا وسط مئة ألف أو مئتَي ألف من الأعداء لو أطبقوا عليهم لسحقوهم سحقاً، ولكن هذا القائد العبقري استطاع أن يَسُلّهم من وسط المعركة سَلاً.
وأنتم تعرفون خطورة عمليات الانسحاب في الحرب الحديثة، وإذا كان الحلفاء يفخرون بالانسحاب من دَنْكرك الذي طبّلوا له وزمّروا واعتبروه حدثاً عظيماً، فإن انسحاب خالد من مؤتة أعظم منه؛ لقد كان الانسحاب من مؤتة أعظم لأن جيش المسلمين لم يخرج للقتال، بل كان سرية استطلاع ما فيها إلا ثلاثة آلاف رجل. وهل يُعقَل أن يرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة آلاف يحارب بهم دولة الروم الشرقية (بيزنطة) ومعها عرب الغساسنة وغيرهم؟ وفوجئت هذه السرية بجيش عظيم من الروم، وكان عدد الجيش -كما يذكر المُقِلّون المعتدلون من المؤرخين- مئة ألف جندي، ويقول آخرون إنه كان يقدَّر بأكثر من مئتَي ألف. وتعاقب القادة المسلمون فاستُشهدوا كما تعلمون، ثم استلم خالد بن الوليد القيادة فاستطاع أن ينجّي أولئك الثلاثة الآلاف من وسط مئة ألف!