عَنْ سُؤَالٍ آخَرَ بِمَا حَاصِلُهُ إنْ لَمْ يَكُنْ لِأَهَالِي الْقَرْيَةِ السُّفْلَى حَقُّ شِرْبٍ فِي النَّهْرِ الْمَذْكُورِ فَلِأَهَالِي الْقَرْيَةِ الْعُلْيَا حَبْسُ جَمِيعِ مَاءِ النَّهْرِ الْخَارِجِ مِنْ أَرْضِهَا حَتَّى يَرْوَوْا ثُمَّ يُطْلِقُونَهُ لِأَهْلِ الْقَرْيَةِ السُّفْلَى إنْ شَاءُوا، وَإِنْ كَانَ لِأَهْلِ الْقَرْيَةِ السُّفْلَى حَقُّ شِرْبٍ مِنْ النَّهْرِ الْمَزْبُورِ فَلَيْسَ لِأَهَالِي الْقَرْيَةِ الْعُلْيَا حَبْسُ مَاءِ النَّهْرِ عَنْ أَهَالِيِ الْقَرْيَةِ السُّفْلَى بَلْ يُبْدَأُ بِأَهْلِ السُّفْلَى حَتَّى يَرْوَوْا لِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَهْلُ أَسْفَلِ النَّهْرِ أُمَرَاءُ عَلَى أَهْلِ الْأَعْلَى حَتَّى يَرْوَوْا كَمَا فِي الزَّيْلَعِيِّ وَغَيْرِهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(أَقُولُ) وَأَفْتَى بِذَلِكَ الْخَيْرُ الرَّمْلِيُّ فِي خُصُوصِ نَهْرِ دِمَشْقَ الْمُسَمَّى بِبَرَدَا وَهَذَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْمُتُونِ كَالْهِدَايَةِ وَالْمُلْتَقَى وَذَكَرَ الْقُهُسْتَانِيُّ وَتَبِعَهُ الْعَلَائِيُّ فِي شَرْحِ الْمُلْتَقَى عَنْ شَيْخِ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ اسْتَحْسَنَ الْمَشَايِخُ أَنْ يَقْسِمَ الْإِمَامُ بَيْنَهُمْ بِالْأَيَّامِ. اهـ. أَيْ إذَا لَمْ يَصْطَلِحُوا وَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِلَا سَكْرٍ فَيَسْكُرُ كُلٌّ فِي نَوْبَتِهِ وَيَنْبَغِي الْإِفْتَاءُ بِهَذَا إنْ لَزِمَ قَصْرُ الضَّرَرِ عَلَى أَهْلِ الْأَعْلَى، فَإِنَّهُ رُبَّمَا يَشْرَبُ أَهْلُ الْأَسْفَلِ جَمِيعَ النَّهْرِ فَيَلْزَمُ أَنْ تَيْبَسَ زُرُوعُ أَهْلِ الْأَعْلَى مَعَ أَنَّ لَهُمْ حَقًّا فِي النَّهْرِ تَأَمَّلْ (فَائِدَةٌ)
رَأَيْتُ فِي الْفَتَاوَى الْفِقْهِيَّةِ لِلْعَلَّامَةِ ابْنِ حَجَرٍ الْمَكِّيِّ الشَّافِعِيِّ قَالَ وَفِي فَتَاوَى الْعَلَّامَةِ السُّبْكِيّ مَا حَاصِلُهُ لَا أَشُكُّ فِي نَهْرِ بَرَدَى فِي دِمَشْقَ أَنَّهُ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لِأَحَدٍ؛ لِأَنَّهُ قَدِيمٌ بِأَرْضِهِ وَالْعَيْنُ الَّتِي يَجْرِي الْمَاءُ فِيهِ مِنْهَا إمَّا مُبَاحَةٌ وَهُوَ الظَّاهِرُ وَإِمَّا كَانَتْ مَمْلُوكَةً لِلْكُفَّارِ وَانْتَقَلَتْ عَنْهُمْ إلَى الْمُسْلِمِينَ وَأَيًّا مَا كَانَ فَلَيْسَ مِلْكًا لِأَحَدٍ وَبَقِيَّةُ أَنْهَارِهَا الظَّاهِرُ أَنَّهَا كَذَلِكَ وَأَنَّهَا مُتَقَدِّمَةٌ وَيُحْتَمَلُ حُدُوثُهَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَا كَانَ بِانْخِرَاقٍ فِي مَوَاتٍ فَلَيْسَ بِمَمْلُوكٍ وَمَا كَانَ بِحَفْرٍ، فَإِنْ قَصَدَ بِهِ حَافِرُهُ الْإِبَاحَةَ فَكَذَلِكَ أَوْ نَفْسَهُ فَمِلْكٌ لَهُ لَكِنَّا لَا نَعْلَمُهُ الْآنَ هُوَ وَلَا وَرَثَتَهُ فَهُوَ لِعُمُومِ الْمُسْلِمِينَ وَعَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ لَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ تَخْصِيصُ طَائِفَةٍ بِجَمِيعِهِ وَلَا بَيْعُهُ بِخِلَافِ الْأَمْلَاكِ الْمُنْتَقِلَةِ إلَى بَيْتِ الْمَالِ الَّتِي يَبِيعُ مِنْهَا وَيُعْطِي نَفْسَهَا، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَنْهَارَ نَفْعُهَا عَامٌّ دَائِمٌ لِلْمُسْلِمِينَ فَلَمْ يَجُزْ تَفْوِيتُهَا عَلَيْهِمْ بِالتَّخْصِيصِ وَالْبَيْعِ بِخِلَافِ غَيْرِهَا وَمَتَى جُهِلَ الْحَالُ هَلْ هِيَ بِانْخِرَاقٍ أَوْ حَفْرٍ فَهُوَ لِعُمُومِ الْمُسْلِمِينَ أَيْضًا. اهـ. مَا نَقَلَهُ ابْنُ حَجَرٍ عَنْ الْإِمَامِ السُّبْكِيّ وَقَدْ يُقَالُ: إنَّ مَا كَانَ مُبَاحًا لِعُمُومِ الْمُسْلِمِينَ لَا يُنَافِي دُخُولَهُ فِي الْمِلْكِ وَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ حُفْرَةَ بَرَدَى وَبَقِيَّةِ الْأَنْهَارِ السِّتَّةِ الْمُتَشَعِّبَةِ مِنْهُ غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ لِأَحَدٍ، وَأَمَّا مِيَاهُهَا فَغَيْرُ مَمْلُوكَةٍ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمَاءَ لَا يُمْلَكُ قَبْلَ الْإِحْرَازِ، وَإِنَّمَا لِأَهْلِ الْأَرَاضِي حُقُوقٌ مُسْتَحَقَّةٌ فِيهَا وَأَغْلَبُ أَرَاضِي دِمَشْقَ الْمُسْتَحِقَّةُ مِنْهُ مِنْهَا أَوْقَافٌ وَمِنْهَا سُلْطَانِيَّةٌ وَبَعْضُهَا مِلْكٌ لِأَرْبَابِهَا وَكُلُّ أَرْضٍ لَهَا حَقٌّ مِنْهُ مِنْ قَدِيمِ الزَّمَانِ مِنْ بَعْدِ الْفَتْحِ أَوْ مِنْ قَبْلِهِ.
وَكَذَلِكَ الدُّورُ فِي دِمَشْقَ كُلُّ دَارٍ لَهَا حَقٌّ مَعْلُومٌ مِنْهَا يَدْخُلُ فِي حُقُوقِهَا حِينَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْإِجَارَةِ وَالْوَقْفِ وَغَيْرِهَا مِنْ التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ بِلَا مُنَازِعٍ وَلَا مُعَارِضٍ وَلَا إنْكَارٍ مِنْ أَحَدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَهَذَا كُلُّهُ دَلِيلُ الْمِلْكِيَّةِ بِسَبْقِ الْيَدِ لِوَاضِعِ الْيَدِ الْأَوَّلِ وَاسْتِمْرَارُ ذَلِكَ إلَى زَمَانِنَا فَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَسْتَوْلِيَ عَلَى حَقِّ أَحَدٍ مِنْ ذَلِكَ بِلَا مُسَوِّغٍ شَرْعِيٍّ وَلَا أَنْ يُحْدِثَ فِي أَصْلِ هَذَا النَّهْرِ الْعَامِّ مَا يُضِرُّ بِأَهْلِ هَذِهِ الْحُقُوقِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ النَّهْرُ لِعُمُومِ الْمُسْلِمِينَ قَبْلَ دُخُولِهِ فِي الْمَقَاسِمِ وَالْكُوَى الْمَمْلُوكَةِ أَمَّا بَعْدَ دُخُولِهِ فِيهَا فَقَدْ صَارَ مِلْكًا كَمَا فِي الْقُهُسْتَانِيِّ وَلِذَا كَانَ كَرْيُهُ عَلَى أَصْحَابِ الْمَقَاسِمِ لَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَيُوَضِّحُ مَا قُلْنَاهُ مَا نَقَلَهُ الْمُؤَلِّفُ عَنْ مُفْتِي طَرَابُلُسَ بِقَوْلِهِ سُئِلَ فِي نَهْرٍ كَبِيرٍ يَنْبُعُ مِنْ سَفْحِ جَبَلٍ عَظِيمٍ يَمُرُّ فِي وَادٍ قَدِيمٍ يُسَمَّى ذَلِكَ النَّهْرُ بِالْعَاصِي يَشْرَبُ مِنْهُ أَرَاضٍ وَبَسَاتِينُ وَمَزَارِعُ وَقُرًى تَحْوِي خَلْقًا كَثِيرًا لَيْسَ لِتِلْكَ الْأَرَاضِي وَالْقُرَى شِرْبٌ مِنْ غَيْرِ هَذَا النَّهْرِ وَتَشْتَمِلُ تِلْكَ الْأَرَاضِي عَلَى عُلْيَا مِنْ جِهَةِ مَنْبَعِ الْمَاءِ وَسُفْلَى تَحْتَهَا وَهَكَذَا وَتَسْتَحِقُّ فِيهِ جِهَاتُ أَوْقَافٍ وَبَيْتُ الْمَالِ وَغَيْرُهُمَا وَلَا يُمْكِنُ السَّقْيُ مِنْهُ إلَّا بِدَوَالِيبَ يُدِيرُهَا الْمَاءُ كَالرَّحَى لِتَسَفُّلِهِ وَارْتِفَاعِ الْأَرْضِ عَنْهُ وَمِنْ قَدِيمِ الزَّمَانِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute