وقوْله تَعالَى:{كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} إذا طَبَّقْناهُ الآن عَلَى الأحزابِ الموجودةَ وأنَّ كلَّ حزبٍ فَرِحٌ بما هو علَيْه مُسْتَمْسِكٌ به مُدَافِعٌ عنه مُوهِنٌ لِغَيرهِ وَجَدْنَا أنَّ الآيَةَ تَنْطَبِقُ تمامًا عَلَى ما يوجدُ الآن مِنَ الأحزابِ وَلا سِيَّما في الأمةِ العربيةِ، الأمةُ العرَبِيَّةُ الآنَ مُتَحَزِّبَةٌ، كلّ حزبٍ فَرِحٌ بما عندهُ، لكنَّ الأمةَ الإسْلامِيَّةَ لا تَتَحَزَّبُ لأنَّهَا حزبٌ واحدٌ هو الإسْلامُ حتى لو اختلفَتْ آراؤهُم، هَذا شافعيٌّ وَهَذا مالكيٌّ وَهَذا حنفيٌّ وَهَذا حنبليٌّ وَهَذا ظاهريٌّ وما أَشْبَهَ ذَلِكَ، فإنها في الحقيقةِ مُتَّفِقَة؛ لأَنَّ كل واحدٍ من هَذِهِ الأحزابِ لا يُضَلِّلُ الآخرَ، بل إنَّه يمدحُه إذا خالَفه بمقتضَى الدَّليلِ عنده، الإنسانُ العاقلُ المؤمنُ حَقًّا هو الَّذي إذا خالَفه غيرُه بمقتضى الدّليلِ عنده لا يَكْرَهُه بل يَحْمَدُه عَلَى هَذِهِ المخالفةِ؛ لأنَّهُ ما خالَفني لأني فُلان، خالَفني لأَنَّهُ يعتقدُ أنَّ الحقَّ معه، وَهَذا هو الواجبُ عليه، وواجبٌ عَلَى كلِّ مؤمنٍ أنْ يتبعَ الحقَّ إذا تبَيَّنَ له ولو خَالَفَ غيره.
إِذَنْ: فالطَّريقُ واحدٌ ولو اختلفَ المِنْهَاجُ؛ لأننا كلنا نُحَكِّمُ الكتابَ والسُّنةَ، وكلنا نعتقدُ أنَّ هَذا هو الحَق، فلماذا أَكْرَهُه لأنَّهُ خالَفني؟ والله تَعالَى يقول:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}[البقرة: ٢٨٦]، نَعَمْ مَنْ تبَيَّن لهُ الحَقُّ وأصَرَّ وعاندَ وعَلِمْنَا أنَّه مجُادِلٌ بالباطلِ فَهَذَا يَنزِلُ مَنزِلتَه، وَهَذا هو الميزانُ في قولهم:(لا إِنْكَارَ في مَسَائِلِ الاجْتِهَادِ)، فإن هَذِهِ العبارةَ اشتهرَتْ عَلَى الألسُنِ لكنها ليستْ عَلَى إطلاقِها؛ لأَنَّ مسائلَ الاجتهادِ نوعانِ:
أحدهُما: ما يَحْتَمِلُه الاجتهادُ، فَهَذَا لا إنكارَ فيه لأَنَّ كلَّ إِنْسَانٍ إذا اجتهدَ؛ إِنْ أصابَ فلهُ أجْرانِ، وإِنْ أخطأَ فلهُ أَجْرٌ، ولا يمكِنُ أنْ نَزِنَ النَّاسَ بميزانٍ واحدٍ؛ لأَنَّ العِلْمَ بالأحكامِ الشّرعيةِ يَتَفَاوَتُ بحسبِ الإِيمَان وحسب العلمِ وحسب الفَهْمِ،