[فصل تحقيق القول في البلاغة والفصاحة في المعنى واللفظ]
وهذه شُبْهة أُخرى ضعيفةٌ، عسى أن مُتعلِّقَ بها مُتعلِّقٌ ممن يُقْدم على القول من غير روية؛ وهي أنْ يَدَّعي أنْ لا معنى للفصاحة سوى التلاؤمِ اللفظي، وتعديلِ مِزَاجِ الحروف، حتى لا يتلاقى في النطق حروفٌ تَثْقلُ على اللسَان، كالذي أنَشْدَه الجاحظ من قول الشاعر [من الزجر]:
وقَبْرَ حَرْبٍ بمكانٍ قَفْرِ ... وليس قُرْبَ قبرِ حَرْبٍ قَبْرُ
وقولِ ابن يسير [من الخفيف]:
لا أُذِيل الآمالَ بَعدك إنِّي ... بَعْدَها بالآمالِ جِدُّ بَخيلِ
كم لها موقفٌ ببابِ صديقٍ ... رجَعتْ مِنْ نَداه بالتعطيلِ
لم يَضِرْها والحمدُ لله شيءٌ ... وانثنتْ نحو عَزْفِ نَفْسٍ ذَهُول
قال الجاحظ: فَتَفَقّدِ النِّصْفَ الأخيرَ من هذا البيت، فإنك ستجدُ بعضَ ألفاظه تَتبرَّأ من بعض. ويُزعمُ أن الكلامَ في ذلك على طبقات: فمنه المتناهي في الثِّقَل المفرط فيه، كالذي مَضَى، ومنه ما هو أَخَفُّ منه كقول أبي تمام [من الطويل]:
كريمٌ متى أمدحْه أمدَحْهُ والوَرى ... معي، وإذا ما لُمْتُهُ وَحْدي
ومنه ما يكون فيه بعضُ الكُلْفة على اللسان، إلاَّ أَنه لا يَبلغُ أن يُعابَ به صاحبُه، ويُشْهرَ أمرُه في ذلك، ويُحْفَظَ عليه. ويزعمُ أن الكلامَ إذا سَلمَ من ذلك، وصفَا من شَوْبِه كان الفصيح المشادَ به والمُشارَ إليه. وأنَّ الصفاءَ أيضاً يكون على مراتبَ يعلو بعضُها بعْضاً، وأنَّ له غايةً إذا انتهى إليها، كان الإعجاز.