للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أولاً: جوانب الإعجاب

* إسهامه المعجب الأول: النظم: نظريةً وطبيعةً

النظم في اللغة، التأليف، وأصله: جمعُ الخَرز بعضِه إلى بعض في سِلْكٍ واحد. ويدعى النظام. وكل شيء قرنْتَه بآخر أو ضممتَ بعضَه إلى بعض، فقد نظمتَه. ومنه نظمُ الشعر وتنظيمُه.

النظم إذن، تأليف، أو جمعٌ وإضافة بمثل الاقتران، في نمط أو نسَقٍ معين يبعث على الرضى والارتياح، كنظم اللؤلؤ، والخرز، والكلام ومنه الشعر. ذاك هو منطلق الجرجاني ومرتكزه: تأليفٌ بطريقة محكمة العرى، متناسقة الشَّكل. لكنه أضاف مادة نظمية أخرى، هي آي القرآن الكريم التي رأى فيها النموذج المثالي لأي نظم لغوي، دفعه، كما دفع كل المشتغلين ببلاغة التعبير العربي، إلى عجز الإنسان العربي، بله الأعجمي عن مجاراة هذا النظم أو جزء يسير منه.

أمَّا وقد اقتنع الجميع بذلك، فقد عمدوا لا إلى الاقتداء والمحاكاة أو المجاوزة .. بل إلى درس الحقيقة التي تكتنفه والطبيعة التي تؤلفه .. فكان لنا إرث لغوي فنِّي جمٌّ. منبعه ومصبُّه: القرآن المحكم، ووجوهُه: علومُ العربية المختلفة، بينها البلاغة بفروعها، وأفانينها اللامحدودة.

واحد من البلغاء الأجلاَّء هو عبد القاهر الجرجاني أُعطي من القدرة والعبقرية ما جعله ينكبُّ على تراث العربية ونتاج شعرائها فيستخرج منه البنى اللفظية والمعنوية والتصويرية التي جرى بها اللسان وفقاً لأصول وأساليب مرسومة ومبتدعة، ويضعها في مقابل النتاج اللغوي الإلهي، فيرى عبقرية العربية التي وُضع فيها أجمل الصنائع، وأنَّ ذلك ناشئ عن قانون قديم تفجَّر بين حرور الرمال المحرقة، وظلال النخيل والواحات الوارفة؛ جعلهم يُبدعون قصائد شعرية لا نزال حتى اليوم عاجزين عن الإتيان بمثلها، وأُنزل القرآن بهذه اللغة وقانونها فزاد الألَقُ ورقيَ بهم النسقُ التعبيري إلى المرتبة التي اقتضتْ وضْعَ ما سمَّاه الجرجاني: "النظم" استناداً إلى الأصل اللغوي، وإلى القسمات الفنية المتسقة المتقنة التي استجلاها من قرائح الشعراء وعلماء النحو والبلاغة، ووشَّجها بالمثال القرآني المعْجز، وهذه حقيقته التي شرحها غير مرة في كتابه الخالد قائلاً:

"إعلم أن ليس النظمُ إلا أن تضعَ كلامكَ الوضع الذي يقتضيه علم النحو، وتعملَ على قوانينه وأصوله، وتعرفَ مناهجَه التي نُهِجتْ فلا تزيغَ عنها، وتحفظ الرسوم التي رُسمتْ لكَ فلا تُخلَّ بشىء منها.

( ... ) فلا ترى كلاماً قد وُصف بصحة نظم أو فساده، أو وُصف بمزيةٍ وفضل فيه، إلاَّ وأنت تجد مرجع تلك الصحة، وذلك الفساد وتلك المزية وذلك الفضل، إلى معاني النحو وأحكامه".

ثم يختم كلامه بما أصبح لازمة ومنطلقاً لكل شرح وتحليل، ومحطَّ رحالٍ لدى كل جولة وكل محاضرة:

"وإذا ثبتَ جميع ذلك، ثبتَ أن ليس [النظم] شيئاً غير توخِّي معاني هذا العلم [النحو] وأحكامه فيما بين الكَلِم".

<<  <   >  >>