ولدينا في كتاب "الدلائل" نوعان من "النظم"، الأول إبداعي إنشائي مصدرُهُ الشواهد القرآنية والشعرية، والثاني، وصفي نقدي، مصدره الخطاب الأدبي البليغ الذي يصدر عن صاحبه صدورَ الشهد عن النحل، ولنا الكتاب كلُّه مثالاً غير محدود. ولكنني أقتطف مثالين صغيرين سريعين، مُحيلاً إلى فِقَرٍ لاحقة في هذه المقدمة، موقوفة على مقتطفات من صنيعه الجميل.
المثال الأول:"وأمَّا زهدُهم في النحو، واحتقارهم له، وإصغارهم أمره، وتهاونُهم به: فصنيعُهم في ذلك أشنعُ من صَنيعهم في الذي تقدم ( ... ) إذْ كان قد عُلم أنَّ الألفاظ مغلقةٌ على معانيها، حتى يكون الإعرابُ هو الذي يَفتحها، وأنَّ الأغراضَ كامنة فيها حتى يكونَ هو المستخرِجَ لها، وأنه المعيارُ الذي لا يتبيَّن نقصانُ كلام ورجحانُه حتى يعرضَ عليه، والمقياس الذي لا يُعرفُ صحيحٌ من سَقيمٍ حتى يُرجع إليه".
المثال الثاني: يتعلق بشرح شاهد قرآني، يعتمده لتأكيد علاقة اللفظ بالنظم:"وشبيهٌ بتنكير الحياة في هذه الآية، تنكيرها في قوله عزَّ وجلَّ:{وَلَكُمْ فِى القِصَاصِ حَيَاةٌ}[البقرة: ١٧٩] وذلك أنَّ السبب في حسن التنكير وأنْ لم يَحْسُن التعريفُ، أنْ ليس المعنى على الحياة نفسها، ولكنْ على أنه لمَّا كان الإنسانُ إذا عَلمَ أنه إذا قتلَ قُتِل، ارتدعَ بذلك عن القتل فسلم صاحبُه، صارتْ حياةُ هذا المهموم بقتله، في مستأنفِ الوقت، مستفادةً بالقصاص، وصار كأنه قد حَييَ في باقي عُمره، أي بالقصاص".
نعْمَ الشرحُ والتحليل، ونعْمَ العقلُ النَّيرُ الذي مدَّ صاحبَه بهذه الحَزْمة الضوئية نفذَتْ ببصره إلى ما وراء الألفاظ والمعاني، فأطْلع لنا حكمة الآية المحكمة، وجعلتْنا نقرأ في (القصاص) حياة على الرغم من كونه قد يكون قتلاً آخر ..
ونُدهش من جديد، وهو يستقصي الحكمة من ورود كلمة "حياة" منكَّرة، ليقرِّر مسألة دقيقة لا يلحظها إلاَّ العارف المتأمل، وهي وقْفُ (الحياة) على مرتكب القتل الذي اقتُصَّ منه، وليس على أي إنسان: