[فصل: عدم تعلق الفكر بمعاني الكلم مجردة من معاني النحو]
ومما ينبغي أنْ يَعْلَمهُ الإنسان ويجعلَه على ذكرٍ، أنه لا يُتصوَّرُ أنْ يتعلَّقَ الفكْرُ بمعاني الكَلِم أفراداً ومجرَّدةً من معاني النحو؛ فلا يقومُ في وهْمٍ ولا يصِحُّ في عقْلٍ أنْ يتَفَكَّرَ مُتفكِّرٌ في معنى فعلٍ مِنْ غيرِ أن يُريدَ إعمالَه في اسْمٍ، ولا أن يتفكَّر في معنى اسْم من غَيْرِ أنْ يُريدَ إعمال فعلٍ فيه وجَعْلَه فاعلاً له أو مفَعولاً، أو يُريد منه حكْماً سوى ذلك من الأحكام، مثْلَ أن يُريدَ جَعْلَه مبتدأً أو خبراً أو صفةً أو حالاً أو ما شَاكَلَ ذلك. وإنْ أردْتَ أن تَرى ذلك عياناً، فاعْمَدْ إلى أيِّ كلامٍ شئْتَ وأزِلْ أجزاءَهُ عن مواضِعها، وضَعْها وضْعاً يَمْتَنِعُ معه دخولُ شيءٍ من معاني النحو فيها. فقل في:
قِفَا نَبْك مِنْ ذِكرى حبيبٍ ومَنْزِلِ
(مِنْ نَبْك قِفَا حبيبٍ ذكرى منزِلِ) ثم انظر هل يتعلَّقُ منكَ فكْرٌ، بمعنى كلمةٍ منها؟
واعلمْ أني لستُ أقول إن الفكْرَ لا يتعلَّق بمعاني الكَلِمِ المفردَةِ أصْلاً، ولكني أقولُ إنه لا يتعلَّقُ بها مجرَّدَةً من معاني النحْو ومنْطوقاً بها على وجهٍ لا يتأتَّى معه تقديرُ معاني النحو وتوخِّيها فيها، كالذي أرَيْتُكَ؛ وإلاًَّ فإنَّكَ إذا فكَّرْتَ في الفعلَيْنِ أو الاسْمَيْن تُريد أنْ تُخْبِرَ بأحَدِهما عن الشيء، أيُّهما أوْلى أن تُخْبَر به عنه، وأشْبَهُ بغَرَضِك، مثلَ أن تَنْظُر أيُّهما أَمدَحُ وأذَمُّ؟ وفكَّرْتَ في الشيئينِ تُريد أن تُشَبِّه الشيءَ بأحَدِهما: أيُّهما أشْبَهُ به؟ كنتَ قد فكَّرْت في معاني أَنفُسِ الكَلِم، إلاَّ أنَّ فكْرَكَ ذلك لم يكنْ إلا مِن بَعْد أنْ توخَّيْتَ فيها معنىً من معاني النحوِ، وهو إن أردْتَ جَعْلَ الاسمِ الذي فكَّرْتَ فيه خبراً عن شيءٍ أردتَ فيه مَدْحاً أو ذمّاً أو تشبيهاً أو غيرَ ذلك منَ الأغراض، ولم تَجِئ إلى فعلٍ أو اسم ففَكَّرْتَ فيه فرْداً ومِنْ غَيْر أنْ كان لكَ قَصْدٌ أن تَجْعلَه خبراً أو غيرَ خَبَرٍ، فاعرِفِ ذلَك!