واعلمْ أنه لا يصادِفُ القولَ في هذا الباب موقعاً من السامع، ولا يَجدُ لديه قَبولاً، حتى يكونَ من أهلِ الذوقِ والمعرفة، وحتى يكونَ ممن تُحدِّثهُ نفسُه بأنَّ لِمَا يُومئُ إليه من الحُسْن واللطْف أصْلاً، وحتى يختلف الحالُ عليه عند تأمُّلِ الكلامِ، فيجَدَ الأريحيَّة تارةً ويعْرى منها أخرى، وحتى إذا عجَّبْتَه عَجِبَ، وإذا نَبَّهْتَه لَموضع المزيةِ انْتَبَه، فأمَّا من كانت الحالانِ والوجهانِ عنده أبداً على سَواء، وكان لا يَتَفَقَّدُ من أمر النظم إلا الصحَّةَ المطلقة، وإلاَّ إعراباً ظاهراً، فما أقَلَّ ما يُجدي الكلامُ معه! فَلْيَكُنْ مَنْ هذه صِفتُهُ عندكَ، بمنزلةِ مَنْ عَدِمَ الإحساسَ بوزِن الشِّعر والذوقِ الذي يُقيمه به، والطبع الذي يُميٍّزُ صحيحَه من مكسوره، ومَزاحِفه من سالِمِه، وما خرجَ مِن البحر ممَا لم يَخْرُجُ منه، في أنك لا تتصدَّى له، ولا تتكلَّفُ تعريفَه لِعلْمِكَ أنه قد عَدِمَ الأداةَ التي معها تَعرفُ، والحاسَّةَ التي بِها تَجِدُ، فليكُنْ قَدْحُكَ في زنَدٍ وارٍ، والحكُّ في عُودٍ أنت تطمعُ منه في نار.
واعلمْ أنّ هؤلاء، وإنْ كانوا همُ الآفةَ العظمى في هذا الباب، فإنَّ مِن الآفة أيضاً مَنْ زَعم أنه لا سبيلَ إلى معرفة العلَّةِ في قليلِ ما تُعْرَفُ المزيةُ فيه وكثيرِه؛ وأنْ ليس إلاَّ أنْ تَعلمَ أنَّ هذا التقديمَ وهذا التنكيرَ، أو هذا العطْفَ أو هذا الفصْلَ حسَنٌ، وأنَّ له موقعاً من النفس وحظَّا من القَبول. فأمَّا أنْ تَعلم: لمَ كان كذلك وما السَّبَبُ؟ فَمِمَّا لا سبيلَ إليه، ولا مطمعَ في الاطلاع عليه؛ فهو بتوانِيهِ والكَسل فيه في حُكْم مَنْ قال ذلك.