أردت من هذه الفقرة منح القارئ فسحه تأمل سريع في صنعة الجرجاني المحكمة ونسيجه الأدبي الجزل الذي لم تشُبْه البحث العلمي الرصين، ولا كُلفة البديعي المتهالك على محسِّن صوتي خاوٍ .. لئن قدَّمتُ شيئاً منها في طيَّات هذه المقدمة، فللاستشهاد وتبيان المعالم الدالَّة.
وقد حرصتُ أن يكون الاختيار خالصاً من تغضُّنات التقليب والتأويل، وكثرة السؤال التي تسود كثيراً من الفصول والصفحات، بدافع التعليم والنفي والإثبات لما يطرح من أفكار ومفاهيم.
١ - تفصيل لمزايا إعجاز القرآن
قال مجيباً عن تساؤل العارف الجاهل حول مزايا القرآن:
"أعجزَتْهم مزايا ظهرت لهم في نظمه، وخصائصُ صادفوها في سياق لفظه، وبدائع راعتْهُم من مبادي آية ومقاطعها، ومجاري ألفاظها ومواقعها، وفي مضرب كل مثل، ومساق كل خبر، وصورة كل عظة وتنبيه وإعلام، وتذكير وترهيب، ومع كل حجة وبرهان، وصفةٍ وتبيان؛ وبهرهم أنهم تأمَّلوه سُورةً سورةً، وعَشْراً عَشراً، وآية آية، فلم يجدوا في الجميع كلمة يَنْبو بها مكانها، ولفظةً يُنكرُ شانُها، أو يُرى أنَّ غيرها أصلحُ هناك أو أشْبَه، أو أحرى وأخْلَق، بل وجدوا اتِّساقاً بهر العقول، وأعجز الجمهور. ونظاماً والتئاماً، وإتقاناً وإحكاماً، لم يَدعْ في نفس بليغ منهم - ولو حكَّ بيافوخه السماء - موضع طمع، حتى خرست الألسن عن أنْ تَدَّعي وتقول، وخلدتِ القُروم، فلم تملَك أن تصول" ..
(دلائل الإعجاز/ ص ٣٢) و "خلدت" بمعنى: أخلدتْ. والقروم: الفُحول. وهي هنا مجاز ..
٢ - النظم: حقيقته وضرورته
ليس النظم شيئاً إلاَّ توخِّي معاني النحو وأحكامه ووجوهه وفروقه فيما بين الكلم، وأنك قد تبيَّنت أنه إذا رُفعَ معاني النحو وأحكامُه مما بين الكَلم حتى لا تراد فيها في جملة ولا تفصيل، خرجتِ الكلمُ المنطوقُ ببعضها في أثر ببعضٍ في البيت من الشعر والفصل من النثر، عن أن يكون لكونها في مواضعها التي وُضعتْ فيها موجِبٌ ومقتضى، وعن أن يُتصوَّر أن يقال في كلمة منها إنها مرتبطة بصاحبةٍ لها، ومتعلِّقةٍ بها، وكائنة بسببٍ منها، وإنْ حَسُنَ تصوُّرك لذلك، ثبَّتَ فيه قدَمك، وملأ من نفسك، وباعَدَك من أن تَحنَّ إلى الذي كنتَ عليه، وأن يَجُرَّك الإلفُ والاعتياد إليه، وأنك جعلتَ ما قلناه: نَقْشاً في صدرك، وأثبتَّه في سويداء قلبك، وصادقتَ بينه وبين نفسك".