وبيانٌ آخرُ، وهو أنَّ القارئ إذا قرأ قولَه تعالى:{وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيَبْاً}[مريم: ٤] فإنَّه لا يَجِدُ الفصاحة التي يَجِدُها إلاَّ مِنْ بَعْد أن ينتهي الكلامُ إلى آخِرِه. فلو كانت الفصاحَةُ صِفَةً لِلَفْظِ "اشْتَعَلَ" لكانَ ينبغي أنْ يُحِسَّها القارئُ فيه، حالَ نُطْقِه به؛ فمُحالٌ أن تكون للشيءِ صفةٌ ثمَّ لا يَصِحُّ العِلْمُ بتلك الصفة إلاَّ مِنْ بَعْد عَدَمِهِ. ومَنْ ذا رأى صفةً يَعْرى موصوفُها عنها في حال وجودهِ، حتى إذا عُدِمَ صارتْ موجودة فيه؟ وهل سمِعَ السامعون في قديم الدهرِ وحديثهِ، بصفةٍ شرْطُ حصولِها لمَوْصوفِها، أن يُعْدَمَ الموصوف؟ فإنْ قالوا إنَّ الفصاحةَ التي ادَّعينا لِلَفْظِ "اشتعَل" تكونُ فيه في حالِ نُطْقنا به إلاَّ أنَّا لا نَعْلم في تلك الحال أنَّها فيه، فإذا بلَغْنا آخِرَ الكلام علِمْنا حينئذٍ أنها كانت فيه حين نُطْقِنا: قيل: هذا فنٌّ آخر من العَجَب وهو أن تكون ههنا صفةٌ "موجودة" في شيءٍ ثمَّ لا يكون في الإمكانِ ولا يَسَعُ في الجوازِ أنْ نَعْلَم وجودَ تلكَ الصفةِ في ذلك الشيءِ إلاَّ بعْدَ أن يُعْدَم ويكونَ العلمُ بها وبكوْنِها فيه محجوباً عنَّا حتى يُعْدَم، فإذا عُدِم عَلِمْنا حينئذٍ أنها كانتْ فيهِ حينَ كان.