واعلمْ أنه إذا كان بيِّناً في الشيء، أنه لا يَحتمِلُ إلا الوجْهَ الذي هو عليه، حتى لا يُشْكِلَ وحتى لا يُحْتاج في العلم بأن ذلك حقُّه، وأنه الصوابُ إلى فكْرِ ورويةٍ، فلا مَزِيَّةَ؛ وإنما تكون المزيةُ ويجِبُ الفضلُ إذا احتمَلَ في ظاهر الحال غيرَ الوجه الذي جاء عليه وجهاً آخر، ثم رأيتَ النفسَ تَنْبو عن ذلك الوجهِ الآخر، ورأيتَ للذي جاء عليه، حُسْناً وقبولاً يعدَمُهما إذا أنتَ تركْتَه إلى الثاني. ومثالُ ذلك قوله تعالى:{وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ الجن}[الأَنعام: ١٠٠]، ليس بخاف أن لتقديم "الشركاء" حُسْناً وروعةً ومأخذاً من القلوب، أنتَ لا تجد شيئاً منه إن أنتَ أخَّرْتَ، فقلتَ:(وجعَلوا الجنَّ شركاءَ لله). وأنك ترى حالَك حالَ مَنْ نُقِلَ عن الصورة المُبْهجة، والمَنْظر الرائقِ، والحُسْنِ الباهر، إلى الشيء الغُفْل الذي لا تحلى منهُ بكثيرِ طائلٍ، ولا تصيرُ النفسُ به إلى حاصلٍ، والسببُ في أن كان ذلك كذلك هو أن للتقديم فائدة شريفة ومعنى جليلاً لا سبيلَ إليه مع التأخير. بيانه أنَّا، وإنْ كنَّا نرى جملةَ المعنى ومحصوله، أنهم جعلوا الجنَّ شركاءَ وعبدوهُمْ مع الله تعالى، وكان هذا المعنى يَحصُلَ مع التأخيرِ، حصولَه مع التقديمِ، فإن تقديم "الشركاء" يفيد هذا المعنى ويفيد معه معنى آخر، وهو أنه ما كان يَنبغي أن يكون لله شريكٌ لا مِن الجنِّ ولا غيرِ الجِنِّ. وإذا أخَّر فقيل:(جَعلوا الجنَّ شركاء لله). لم يُفِدْ ذلك، ولم يكن فيه شيءٌ أكثرُ من الإخبار عنهم، بأنهم عبَدوا الجنَّ مع اللهِ تعالى؛ فأما إنكارُ أنْ يُعْبَد مع الله غيرُه، وأنْ يكونَ له شريكٌ من الجنِّ وغير الجن، فلا يكونُ في اللفظ، مع تأخير "الشركاء"، دليلٌ عليه. وذلك أنَّ التقدير يكونُ مع التقديم أن "شركاء" مفعولٌ أول لَجَعل، و "لِلَّهِ" في موضعِ المفعول الثاني، ويكونُ "الجنّ" على كلام ثانٍ وعلى تقديرِ أنه كأنه قيل: (فمن جَعلوا شركاءَ لله تعالى؟) فقيل: الجنَّ.