قد عُلِمَ أنَّ المُعارِضَ للكلام، معارِضٌ له مِنَ الجهة التي منها يوصفُ بأنه فَصيحٌ وبَليغٌ، ومتخيَّر اللفظُ، جيدُ السبْكِ ونحوُ ذلك من الأوصافِ التي نَسَبُوها إلى اللفظ. وإذا كان هذا هكذا، فبِنا أنْ نَنْظرَ، فيما إذا أُتيَ به كان معارضاً، ما هو؟ أهو أنْ يجيءَ بلفظٍ فيضعَه مكانَ لفظٍ آخرَ، نحو أنْ يقولَ: بدلَ "أسد""ليث" وبدل "بَعُدَ""نأى" ومكان "قرُبَ""دنا"، أمْ ذلك ما لا يذهبُ إليه عاقلٌ ولا يقولُه مَنْ به طَرْقٌ؟ كيفَ، ولَوْ كان ذلك معارَضةً لكان الناسُ لا يَفصلِون بين الترجمةِ والمعارَضَة، ولكان كلُّ مَنْ فَسَّرَ كلاماً، معارِضاً له؟ وإذا بطَل أن يكون جهةً للمعارَضَة وأن يكون الواضِعُ نفسُه في هذه المنزلة معارضاً على وجهٍ من الوجوهِ، علمتَ أنَّ الفصاحةَ والبلاغةَ وسائرَ ما يجري في طريقهما، أوصافٌ راجعةٌ إلى المعاني وإلى ما يُدَلُّ عليه بالألفاظ دون الألفاظ أنفُسِها، لأنه إذا لم يكن في القسمة إلا المعاني والألفاظُ، وكان لا يُعْقَل تعارضٌ في الألفاظ المجرَّدة إلا ما ذكرتُ، لم يَبْقَ إلا أنْ تكونَ المعارضةُ معارضةً من جهةٍ تَرجعُ إلى معاني الكلام المعقولة دون ألفاظه المسموعة. وإذا عادت المعارضةُ إلى جهة المعنى وكان الكلامُ يعارَض من حيث هو فَصيحٌ وبليغٌ ومُتخيَّرُ اللفظِ، حصَلَ من ذلك أنَّ الفصاحةَ والبلاغةَ وتخيرَ اللفظ، عبارةٌ عن خصائصَ ووجوهٍ تكون معاني الكلام عليها، وعن زياداتٍ تَحْدثُ في أصول المعاني كالذي أريتُكَ فيما بين "زيدً كالأسد" و "كأنَّ زيداً الأسدُ" وأنْ لا نَصيبَ للألفاظِ من حيث هي ألفاظٌ فيها بوجهٍ من الوُجوه.